عبدالله العولقي
يعد يوسف إدريس من رواد كتابة القصة القصيرة على مستوى الوطن العربي، وقد نال شهرة واسعة من أصالته في الكتابة ونبوغه فيها، فهو يعد بحق رائدا خلاقا في هذا المجال، فمجموعاته القصصية لا تضارعها أية مجموعات أخرى في عالم القصة القصيرة، تقول عنه الأديبة لوسي يعقوب: إن أدب يوسف إدريس يعطي للقارئ لونا من التحرر الفكري، وينطلق به إلى آفاق طالما تمناها عقله الباطن واختزنتها رغباته الدفينة التي لا يجد لها الشجاعة الكافية، ولا المتنفس الطلق إلا في الكتابة والقلم، أما مسرحياته فهي آية أخرى للإبداع والجمال، وهي تشمل جوانب تصويرية متعددة، منها الجانب السياسي، ومنها الجانب الاجتماعي، وهي تحليل شامل لأفكار ومشاعر ومشكلات الإنسان.
والحياة في نظر يوسف إدريس هي عملية تغيير، فما من شيء ينبغي أن يبقى ساكنا أو ثابتا على حاله، ولذا فهو يؤمن بأن الأفكار والفلسفات والقيم يجب أن تتغير باستمرار، ويصر على أن القيم والأفكار إذا ثبتت على حالها توقفت الحياة، فالبشر لم يولدوا ليتقبلوا الوضع المفروض عليهم من الجيل السابق، ولذا يبحث يوسف إدريس كإنسان وككاتب باستمرار عن أفكار وفلسفات جديدة، وينادي بأن للكاتب مهمة في المجتمع ينبغي أن يقوم بها في عالم من التغيير، أما عن آرائه في الكتابة، فهو يقول: إن الكاتب هو إفراز حياته، فإذا ما توقف الكاتب عن ممارسة الحياة فلن يستطيع الكتابة – فالمسألة – كما يقول يوسف إدريس: هل يعيش الكاتب ليكتب أو يكتب ليعيش؟، أهو شخصيا يختار أن يحب ويقاسي ويناضل كي يكتب، أم العكس؟، وهذه معضلة بالنسبة له، ولكنه يعلم أن الفنان لا بد أن يعيش ملء حياته وبالكامل كي يتسنى له أن ينتج، فكتاباته ليس شيئا مخططا له من قبل، وهو يريد أن يكون حدسيا وأن يعكس حالة الإنسان الطبيعية، إن لديه فكرة عامة في ذهنه، ولكنه لا يعرف كيف سيكون سلوك شخصياته، ولا كيف ستنتهي قصته أو مسرحيته، وكما قال دورينمات من قبله: إن الأفكار تأتي دائما من وحي اللحظة، والمهم لديه هو ما يضعه في حينه، وهو دائما مستعد لجحد ما صنعه من قبل، وما يعتقده عن فنه، يتغير في أثناء إيجاده للفن، فكل إنتاج إنما هو تحد جديد له، وعندما يقارب التمام، يكون متشوقا أن يكتشف ما أتمه.
ولئن أراد يوسف إدريس أن يكون حدسيا في كتاباته، فإنه يريد أن يكون علميا في بحثه، فهو مؤمن بالملاحظة وجمع المعلومات كي يكتب بإحكام وتدقيق، وهنا لا بد من القول إن مهاراته في الطب التحليلي، إضافة إلى عادته في ملاحظة التفصيلات قد أتاحت له أن يكون كاتبا بارعا في القصة القصيرة، ولكنها عقبة عند الكتابة للمسرح، فمع أن الصياغة الدقيقة للشخصية والمواقف لها أهميتها في المسرحية، إلا أن التحليل المفصل يلحق الضرر بالمسرحية الجديدة، أما مسيرته وحياته، فقد ولد يوسف إدريس في 19 مايو سنة 1927 م، في قرية البيروم بمحافظة الشرقية لأسرة من متوسطي المزارعين تضم عددا من المتعلمين الأزهريين، حيث تعلم في المدارس الحكومية والتحق بعد دراسته الثانوية بكلية الطب في جامعة القاهرة التي تخرج منها عام 1951م، وكان والده متخصصا في استصلاح الأراضي، ولذا كان كثير التنقل باستمرار، وعاش بعيدا عن المدينة، وقد أرسل ابنه البكر يوسف إلى الريف ليعيش مع جديه في القرية، وهناك عاش يوسف إدريس طفولته وسط صمت جديه ووحدة طويلة، وفي يسار وحدته ووحشته، لاذ يوسف إدريس في عالم من أحلام اليقظة، وخلق لنفسه عالما يستطيع من خلاله أن يحقق ما يحتاج إليه من الحب والدفء، ثم عاد وهو مراهق للحياة مع أسرته إلى القاهرة، والتحق بكلية الطب، وفي أعوام دراسته اشترك في مظاهرات كثيرة ضد المستعمرين الإنجليز، وفي أثناء دراسته الجامعية كان يكتب محاولاته الأولى في القصة القصيرة، التي لاقت رواجا حسنا بين زملائه في الكلية، وبعد تخرجه من الجامعة عين طبيبا في القصر العيني وهو أكبر مستشفيات ظاهرة حينها.
ومنذ أعوام الدراسة الجامعية ما بين عامي 1947م و1951م، ويوسف إدريس يحاول نشر كتاباته، وقد بدأت قصصه القصيرة تظهر في مجلتي المصري، وروز اليوسف في عام 1954، حيث ظهرت مجموعته القصصية الأولى تحت مسمى أرخص الليالي، وظل يمارس الطب حتى عام 1960 م، حينها وجد نفسه في الأدب، وفي كتابة القصة القصيرة، وحينها اعتزل الطب كمهنة، وتفرغ للإبداع في مجال الأدب، وتحديدا في القصة القصيرة.
وفي سنة 1963م، حصل على وسام الجمهورية وأصبح على من جسيما في سماء الأدب، واعترف به ككاتب من أهم كتاب عصره، وظل محط اهتمام وتقدير النقاد والمتابعين حتى وفاته، كما حصل على جائزة عبد الناصر في الآداب عام 1969م، وجائزة العراق للآداب عام 1988م، وجائزة الدولة التقديرية عام 1990م.
يعتقد يوسف إدريس أنه ليس عالما، ولكن هذا لا يعني أنه ليس قارئا نهما، ففي أثناء اشتغاله بكتابة روايته القصصية القصيرة الأولى، كان يطالع باستفاضة في الأدب الأجنبي، مكتشفا عمالقة الرواية العالمية كممباسا وتشيخوف وإدجار آلان بو، وجوركي، وهيمنجواي، وتليستوي، وشو، وأ بسن، وجراهام جرين، و أرثر ميلر، و ملفيل، وقراءة كثيرين من الكتاب الفرنسيين مثل سارتر ودي هامبل، بيد أن كاتبه الفرنسي المفضل هو اكسبوبيري، كذلك اهتم ببعض الكتاب الصينيين واليابانيين والهنود والكوريين والإسبان، كما كان يرى أنه من النادر أن ينتج الكاتب الرائعة تلو الأخرى، ويؤمن بأن كل كاتب مسرحي مثلا لا ينتج إلا عملا فنيا واحدا طيلة حياته، ويقول إنه من العسير العثور على التأليف المضبوطة من الشخصيات والأفعال واللغة، ولذا فإن بستان الكرز يعد من أروع روائع تشيخوف، كما أن سانت جون من أهم أعمال برنارد شو.
إن يوسف إدريس الطبيب، هو أيضا الطبيب المعالج في فن القصة القصيرة، فإنها تقرب من عملية جراحية تعالج من مبضع جراح ماهر وتحليله لنفسية شخصيات قصصه، وتعكس طبيعة الطب النفسي الذي حاول أن يكونه في فترة ما، أما تصويره للعنصر الجنسي في قصصه فيرمز إلى ظمأه للحب في أولى فترات حياته، ويرتفع مستوى التكنيك الفني في قصص الدكتور يوسف إدريس إلى مستوى فني عظيم، لقد جذبت قصص يوسف إدريس الأولى الانتباه إلى أن اسمه سيصبح من الأسماء اللامعة في فترة وجيزة، وهو ما قد حدث بالفعل، خاصة بعد كتابة قصة أنشودة الغرباء والتي نشرت في مجلة القصة عام 195 0م، وبعدها تابع نشر قصصه في مجلة روزاليوسف، ثم قدمه عبدالرحمن الخميسي إلى قراء جريدة المصري التي كان ينشر فيها قصصه بانتظام، ثم كتب عدة مقالات في مجلة صباح الخير، ثم أصبح من كتاب جريدة الجمهورية التي كان يرأس مجلس إدارتها في ذلك الوقت الرئيس الراحل أنور السادات، حيث بدأ ينشر حلقات قصص قاع المدينة والمستحيل و قبر السلطان، وبعدها انطلق يوسف إدريس مؤكدا مكانته كأبرز كتاب القصة القصيرة في العالم العربي.
ووفقا للنقاد فإن رؤية إدريس الأدبية والفكرية تستند إلى حساسية فائقة، وإدراك نافذ لمظاهر الوجود الإنساني وحقائقه، أكثر مما تستند إلى معرفة معلوماتية محدودة، ويجمعون على أن كتاباته تتسم بمعرفة عميقة بالواقع الاجتماعي المصري، وبأسلوب ساخر، تشبه روح الفكاهة، معتمدا على استعمال اللغة العامية في أدب أغلب الحوارات، ومن الأحداث المثيرة أيضا في حياة يوسف إدريس هجومه الشديد على زميله الروائي الكبير نجيب محفوظ بمجرد أن نال جائزة نوبل.
يقول الشاعر المبدع فاروق جويدة عن يوسف إدريس: كنت دائما معجبا بيوسف إدريس المبدع، وكنت محبا ليوسف إدريس الإنسان، وكنت أعتقد أن شخصية يوسف إدريس تجمع شخصين في جسد واحد، وأن الخلاف بينهما هو خلاف بين الإنسان المبدع والإنسان العادي، وكثيرا ما كنا نتحاور ونختلف وكان من أقرب الكتاب إلى قلبي، قلت يوما لنزار قباني كان ينقصني شيء من جرأتك وكان ينقصك شيء من خجلي، وكان هذا أيضا الخلاف بيني وبين يوسف إدريس، كان حادا في كل كتاباته وكان في حالة تمرد دائم، وكان لا يهدأ مثل أمواج البحر، فهو صاخب دائما، فقد كان يعشق نجوميته ويغضب كثيرا إذا انطفأت الأضواء حوله، وكان يحب ذاته بجنون، وكنت تراه في كل ما كتب، لقد كان يوسف إدريس مختلفا عن كل رفاق مشواره ليس لأنه أكثرهم بريقا، ولكن لأنه كان يعتز كثيرا بقدراته ويراها غير ما لدى الآخرين، كان يوسف إدريس متمردا بالفطرة وكنت أرى فيه شيئا من غرور نزار قبانى وأحلام المتنبي التي خذلته، لقد اختار يوسف إدريس دائما المناطق الصعبة.