د.محمد سليم
إن الإزهار الثقافي والعلمي يتطلب وجود ظروف ملائمة في ظل الاستقرار السياسي والاجتماعي على امتداد سنين طويلة؛ ما يفضي إلى إيجاد بيئة مواتية تتوافق ومتطلبات تطور الثقافة ونشرها خارج حدودها، ولذا نرى الدول المتقدمة تولي اهتماماً متزايداً بإثراء ثقافاتها بشتى الطرق؛ كونها تعد واجهة لامعة لها تعرض عما يتميز به أهلها من قوة في الخلق والإبداع، وبراعة في إثراء الفكر والعلم، وعمق في التأثر والتأثير.
ولعله من السذاجة في الأمر أن نرى البعض يدعون أن الاعتناء بمجال الأدب والثقافة على المجمل قد ولّى زمنه، حيث باتت الدول - في نظرهم الخاطئ - تولي اهتماماً أكثر بالمجالين العلمي والفكري نظراً لعوائدهما القوية وإمكاناتهما الهائلة التي لا تحدها حدود، غير أن ادعاءهم هذا أبعد ما يكون عن التعقل والحصافة، فالنظرة السريعة في قائمة الدول المتصدرة للمشهد الثقافي والأدبي في عالمنا المعاصر تدحض هذا الادعاء، حيث نرى الدول المتقدمة تستثمر كثيراً وبكمية هائلة من الموارد في تعزيز وإثراء المجال الأدبي والثقافي، وبالطبع له نتائجه المثمرة على المدى القريب والبعيد، ولا غرو في أننا نجد أجناساً ونظريات أدبية وفكرية حديثة - على وجه العموم - واردة إلى العالم الشرقي من العالم الغربي ما يفند دعاوى المقلين من شأن الاهتمام بأمور الأدب والثقافة، فالذي بات يشغل هموم العالم المتقدم هو تقوية ثقافته وأدبه وتصديرهما للعالم بما يخدم مصالحه من أجل إرساء دعائم متينة للقوة الناعمة، الأمر الذي يصب في نهاية المطاف في رفع شأنها ومكانتها بين الدول.
وبالنظر إلى المشهد السياسي والثقافي في العالم العربي المعاصر مع ما يمرّ به من تحولات جذرية على الأصعدة المختلفة، فإننا نكاد نجزم القول بأن السعودية مترشحة لتلعب دوراً أبلغ أثراً، وأكثر أهمية في السنوات القادمة، فهي حظيت بالاستقرار السياسي والاقتصادي منذ ما يقارب قرنا من الزمن إلى جانب احتضانها لأرباب الفكر والقلم المتميزين، فضلاً عما تتمتع به من بنى تحتية ممتازة توفر بيئة صالحة للخلق والإبداع، والابتكار والتجديد. هذا، والشيء الذي يجعلنا نتفاءل ونثق بقدرة السعودية على حمل الثقافة العربية هو سيرها على المسار الصائب آخذة في الاعتبار الظروف الصعبة التي تمر بها البلدان العربية التي كانت في الماضي القريب منبعاً للخلق والإبداع، فسوريا ولبنان مشحونتان بصراعات وتوترات داخلية أنهكتهما، ومصر غارقة في تدهور اقتصادي يثقل كاهلها، والعراق بالكاد يقف على قدميه بعد سنين دامية حرمته الأمن والاستقرار، وهي دول كانت لها دور مشهود ومشهور في النهضة العربية الحديثة، غير أن الأوضاع السياسية والاقتصادية بها تضعها في وضع لا تُحسد عليه.
وفي السنوات القليلة الماضية كثر الحديث - وبكل جدارة واستحقاق - عن دور السعودية المهم في نشر وترويج اللغة العربية في مختلف بقاع المعمورة، وبصفة خاصة في الدول الناطقة بغيرها ومنها الهند ودول آسيوية أخرى، وجاءت مبادراتها بهذا الجانب مركزة على بذل جهود أكبر لفتح مجالات أرحب وأوسع تمكّن معلميها ومتعلميها من الاستزادة من الزاد العلمي والثقافي، في ظل توجيهات كوادر علماء اللغة والأدب المميزين، وبإيعاز من أصحاب القرارات والمصالح المعنيين، وذلك شيء ليس بمستغرب على دولة حرصت دوما على توفير بيئة مواتية تتبوأ فيها اللغة العربية مكانتها المتميزة واللائقة بها مع ما يصاحبه من إطلالات مضيئة على الثقافة العربية وترويجها للعالم، وفي ذلك يكمن سر مسايرة الركب الثقافي والحضاري العالمي ومواكبة روح الابتكار والتجديد في عالم الثقافة والأدب.
** **
- أكاديمي هندي مقيم في نيو دلهي