د. معتصم ابراهيم خليل
أثار الداعية الكويتي عثمان الخميس مجدداً ما أثير من قبل عن التشكك في هوية عالم الكيمياء العربي المسلم جابر بن حيان واصفاً له بالشخصية الوهمية التي لا وجود لها مما أشعل الجدل بين مؤيد ومستنكر وساخر منه. فعارضه في ذلك دكتور سعيد عثمان أستاذ التاريخ بجامعة الملك خالد رافضاً المساس برمز من رموز الحضارة الإسلامية واصفاً هذا التشكيك بالخلط بين الدين والعلم من فئة تريد الوصول لمآرب يائسة لتنتقص من الحضارة الإسلامية. في حين يرى الأستاذ الدكتور أحمد الغامدي أستاذ الكيمياء بجامعة الملك سعود أن ما جاء به ابن الخميس ما هو إلا اجتهاد شخصي ليس وراءه أجندة خاصة واستدل بأن التشكيك بوجود ابن حيان أمر مذكور منذ فترة قديمة كما ورد عن ابن تيمية وكذلك عن المؤرخ الكيميائى البارز جورج سارتون. ويشير الدكتور محمد ربيع الأستاذ بكلية الدراسات التطبيقية بالكويت إلى أن هذا التشكيك قد أثير من قبل ألف سنة وأن التشكيك في هوية المشاهير قد مسّ عنترة بن شداد وامرؤ القيس وشكسبير وأن جابر بن حيان يماثل جحا في هويته معززاً قوله بخلو كتب التراجم من سيرته ونسبه..
فإذا تناولنا هذه المسألة بالتفكير النقدي الذي يدعو له دكتور محمد ربيع نقول لا يوجد باحث أو مفكر يكتب عن إنجازاته قائلاً: (إنا نذكر في هذه الكتب خواص ما رأيناه فقط دون ما سمعناه أو قيل لنا أو قرأناه هذا بعد أن امتحناه وجربناه بأنفسنا فما صح أوردناه وما بطل رفضناه).
ليصبح أول من أسس للعلم التجريبي منهجاً للبحث العلمي ويلقب بأب الكيمياء وشيخ الكيميائيين ويضع مقياساً للعالم بقوله: (من كان درياً كان عالماً). مقارنة بالإغريق وقدماء المصريين الذين اتصفت كيمياؤهم بالغموض والمجازية، واستمد منه استنتاجاته واقتراحاته ونظرياته المدعمة بنتائج تجاربه ويصف الكحول وكلوريد الأمونيا وأكسيد الزرنيخ والرصاص وصفاً دقيقاً ويعرف ملح القلى والنشادر والماء الملكي ويكتشف حمض الكبريت ويحضر محاليل مركزة لحمض النتروجين والسليماني والخل ويخترع جهاز التقطير المعروف باسم الإنبيض أو الأمبيض ويحضر الأحجار الكريمة ويعرف الحمض والقاعدة ويفاضل بينها ويصنع مئات من الأدوية والمواد الكيميائية ويطور نظرية العناصر الأربعة الرئيسة مضيفاً إليها عنصر الاشتعال وهو الكبريت وعنصر التطاير وهو الزئبق. وهو الذي لاحظ قانون حفظ الكتلة في تجربته المشهورة بتحضير الزنجفور من تفاعل الزئبق والكبريت وهو الذي نقل علم الكيمياء من الصنعة إلى العلم الحديث أن يتنازل طائعاً وينسب أعماله وإنجازاته لشخص مجهول اسمه جابر بن حيان. فذلك لا يستقيم. وتشهد كتب التاريخ أنه ولد عام 737م وتوفى عام 813م وشهد أواخر العصر الأموي وعاصر بداية العصر العباسي.
أما ما نسب إليه من أعمال وكتب فما ذلك إلا ترويج لها من قبل كاتبيها مستغلين شهرة ابن حيان وتمثل عندي دليلاً على وجوده لا العكس. كما أنه لا يستقيم عقلاً هجران ابن حيان لمنهجه التجريبي معلناً: (مصدر علومي ليست هي التجربة إنما النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه وجعفر الصادق). فهنا يبدو الخلط بين الدين والعلم من فئة أرادت إضفاء القدسية على علي رضي الله عنه وعلى جعفر الصادق وتلقيهم شيئاً من علم الكتاب - علم الدين من الله سبحانه وتعالى. وفي تعليق الأستاذ الدكتور أحمد الغامدي شيء من الحقيقة حين قال إن ابن الخميس أراد أن يقطع وجود علاقة بين ابن حيان وجعفر الصادق لأن تلك الفئة تقول إن علوم ابن حيان من جعفر الصادق وعلوم جعفر الصادق من (الجفر) الذي كان عند باب العلم علي بن أبى طالب.
وقد نفى ابن الخميس تعاطي العرب لتلك العلوم غافلاً عما قاله المؤرخ الغربي دورانت أن العرب نقلوا الكيمياء من الهندوس وعلاقة العرب بالهند قديمة قدم التاريخ وبرعوا فيها ونقلوها إلى أوروبا. ولا يقول أحد إن ابن حيان قد اخترع الكيمياء إنما نهل من تراكم المعرفة العلمية لدى العرب وهي نفس التراكمية التي أنتجت علماء الأمة الموسوعيين.
فهي خاصية تميزوا بها دون باقي علماء الأمم وحقيقة لا يتجادل عليها اثنان. يكفي فخراً ما قدمه ابن سيناء (928م- 1025م) في علم الكيمياء والصيدلة والطب. فكتابه (القانون في الطب) هو المرجع الذي اعتمد عليه الأوروبيون لخمسة قرون تالية.. ويكفي أن اختاره مجمع الصيادلة بإنجلترا مع جالت اليوناني كأعظم اثنين تدين لهما علوم الصيدلة بالفضل.
ويكفي فخراً ما قدمه ابن الهيثم (965م- 1040م) العالم الموسوعي العربي المسلم من إسهامات في علوم الرياضيات والفيزياء والفلك والأديان والبصريات فلقب بأب البصريات وصار كتابه (كتاب المناظر) مرجعاً لعلماء الغرب اسحق نيوتن وكيبلر وجاليليو. وهو الذي أسس لمبدأ وجوب أن تسند النظرية بالتجربة المؤسسة على طرق علمية أو منطق رياضي.
ختاماً، فبدلاً أن نجادل في هوية جابر بن حيان علينا أن نحقق ما تركه السلف من إرث علمي دونوه بلغة غامضة ونفك طلاسم مصطلحاتهم في وصف تجاربهم بالتفصيل والسقي والشوى والاضمحلال والهلاك وأن تدبيرهم هو تفصيل وتركيب وحل وعقد ونقص ورد وموت وحياة متعللين في غموض تعابيرهم بكتمان سر الكيمياء حتى لا يستخدمها السفهاء فيما نهى عنه الشرع حتى يتبين لنا صحة ما ورثناه.
** **
أستاذ الكيمياء - جامعة الملك سعود سابقاً