رقية نبيل عبيد
لم أكن أسمع الكثير عن فيلم الفرن، في الواقع قليلًا ما وجدته معروضًا على أي محطة تلفازية، وأقل منه تلك المرات التي صادفني أي حديث أو نقاش صغير عن الفيلم، وبالرغم من ذلك بقي الجزء الذي شاهدته من الفيلم مصادفة ينخر تفكيري لأيام بعدها دون هوادة، وبقيت مشاهد منه عالقة بعناد في ذهني لا تبغي أن تتزحزح لغيرها، وأثر في أيام تأثير مظاهر الظلم التي رأيتها في الجزء الأول من الفيلم.
لعل البطولة غريبة بعض الشيء هنا، فالممثل يونس شلبي أفلح تمامًا في أداء الأدوار المساندة والتي لطالما ظهر فيها بجوار أحد عمالقة الفن، فلا أحد منا ينسى قط دوره في المسرحية الخالدة «العيال كبرت»، لكنه في فيلم الفرن كان البطل بلا منازع، ودور البطولة لبسه سهلًا مناسبًا مصممًا خصيصًا لأجله، تشاركه فيه الفنانة معالي زايد.
داغر الشهاوي يملك أكبر فرن في الحارة المصرية القديمة، كل سكان الحارة من البسطاء الذين بالكاد يملكون قوت يومهم، لكن داغر ثري وإن كان ثراؤه بحجمه لكنه عند هؤلاء البسطاء لا يختلف في شيء عن ثراء الملوك! الظلم الذي يوقعه داغر كل يوم بأهل الحارة هو ما راعني وأبى أن يمحى من ذهني، يراود امرأة العاجز عن نفسها في مقابل تأمين ثمن الدواء له، يصفع الرجال كل صبح ويركل هذا الشيال وذاك، وحين يقدر لا يتورع عن سلب اللقمة من أفواه الجياع، كل هذا وهو سيد الحارة وكبيرها، عنده جمعه ورجاله وقواته التي تزيده طغيانًا وتكبرًا وتزيد الأهالي تعاسة فوق تعاستهم.
عوض، ابن الفلاح البسيط يشاهد بعينيه أباه الساذج وأمواله تؤخذ منه ثم ينكر المعلم الكبير أن أخذ شيئًا، أبوه الذي قضى ليلة يحلم بالمشاركة التي وعده بها المعلم إذا ما أعطاه كل المبلغ الذي يملكه ثمن أرض أجداده التي باعها، يحلم باليوم الذي سيكف فيه المعلم عن ضربه وإهانته، ويصطحب في الصباح وحيده عوض خصيصًا معه ليرى والده وهو يتسلم «المَعْلَمة»، فقط ليتفاجأ بإنكاره ويقضي نحبه ذلًا وقهرًا وهوانًا، عوض يصبح محاميًا ويرحل عن الحارة لكن ذكرياتها الأليمة لا تكاد تفارقه قط، فيما تحلم طعمة بيوم زفافها الميمون، ويطمع المعلم في طعمة ويسبب لها فضيحة ليلة زواجها، وتراقب طعمة زوجها الشجاع يستحيل فأرًا في حضوره ولا يستطيع أن يرفع إصبعًا يحميها به، وهكذا يلتقيان ويخططان سرًّا وكل منهما يضمر أشد العداوة للمعلم الكبير، وحينها تدرك طعمة كم أن الشجاعة لا علاقة لها بالطول الفارع أو الملامح الوسيمة وهي ترى في عوض كل ما افتقدته في طليقها.
الأداء العظيم للفنان عادل أدهم في دور المعلم هو ما حملني على التفكير كثيرًا في هذا الفيلم، ثم جاءت أدوار البطولة والقصة العميقة التي تصلح لكل زمان ومكان لتقولب الأحداث في فيلم حقيقي، فيلم لا يُنسى، وحين تمر بي بعض الأفلام الصادرة مؤخرًا لا أشعر إلا بالحسرة تنتابني، ماذا عليهم لو اصطنعوا قصصًا كهذه؟ قصصًا للإنسان وعنه ولأجله؟، فهذه هي التي تنجح وهذه هي التي تبقى.