سليمان بن أحمد التركي
من الكتب الجميلة التي لم تأخذ حقها من الذيوع والانتشار والاحتفاء بين كتب الرحلات والسير الذاتية العربية، كتاب (رحلة الأمل والألم) للشيخ السفير أحمد بن علي آل الشيخ مبارك (1337-1431هـ)، إذ يتحدث فيه عن رحلته في طلب العلم من الأحساء إلى بغداد والقاهرة في الخمسينات الهجرية (الثلاثينات الميلادية).
صاحب هذه الرحلة من جيل عصامي مكافح، لم تتوافر له فرص التعليم النظامي في بلده حينذاك، ولم يكتف بما ناله من العلوم الشرعية والعربية في مساجد الأحساء ومدارسها الدينية، فتطلعت نفسه إلى السفر وهو شاب في السابعة عشرة من عمره؛ ليحظى بقدر أكبر من التعليم الحديث، ولا غرابة، فهو ربيب بيت معروف من بيوتات العلم والقضاء والشعر والأدب في شرق المملكة ومشيخات الخليج العربي، وسليل أسرة تميمية عريقة استقرت في الأحساء، وكان موطنها قبل ذلك إقليم سدير في نجد.
والشيخ أحمد المبارك مرموق المكانة، ويعد في الصف الأول من أعلام الأحساء في العصر الحديث، وقد أفاد من الوراثة والبيئة في تكوينه وإعداده العلمي، فنشأ نشأة دينية محافظة، ودرس على والده وعلماء أسرته ومشايخ مدينته المبرزين في العلم.
وقد اجتمعت في شيخ أدباء الأحساء صفات الأستاذية من بسطة في العلوم الشرعية والعربية، ورجاحة العقل، ووضوح البيان، مع ما وهبه الله من الهمة والصبر والجلد وقوة العزيمة، والحكمة والوقار والاعتدال، ولين الجانب والتواضع وصفاء الطوية، وتصريف الحديث والمعارف الواسعة والتجارب الغنية.
فلا عجب أن يصبح شخصية عريضة متنوعة الجوانب والأبعاد، ولذا كان مجلسه معلماً شهيراً من معالم الأحساء، ومجمعاً للعلماء والشعراء والمثقفين؛ لما يجدونه فيه من العلم والأدب والجد والظرف، وفي الشبكة على موقع (اليوتيوب) تسجيلات مرئية ماتعة له في صالونه الأدبي الأسبوعي الذي تنعقد فيه الندوات والمحاضرات إلى يومنا ولم تنقطع.
وأبو مازن شاعر وأديب وناثر وروائي ومحاضر وخطيب ولغوي وفقيه ومؤرخ وسياسي وإداري ودبلوماسي ووجيه ورجل دولة ومجتمع، ولم يقف نشاطه الفكري على التأليف وفتح صالون ثقافي، بل امتد إلى ميادين ثقافية متنوعة؛ فحاضر في محافل كثيرة، وأسهم في مؤتمرات وندوات مختلفة، واشترك في هيئات ومؤسسات علمية عدة.
وللشيخ المبارك ولع خاص بتاريخ مدينته العلمي، وتراثها الأدبي، وتراجم علمائها وأعيانها، وقد تطلب هذا منه قراءة مستفيضة، ومطالعات واسعة حتى أصبح حجة في التاريخ الأحسائي، ناهيك عن إحاطته الكبيرة واستيعابه للشعر والشعراء في مختلف العصور، وكان يستظهر كثيراً من النصوص الأدبية القديمة ويسردها في مجالسه، ويحب أن تُقرأ عليه، وينتقي لمريديه من الفوائد والأخبار والطرائف ويرويها لهم بأسلوبه الفريد المشوّق، وحديث أبي مازن مثل كتابته لا تكلّف فيه أو تعقيد.
وفي مجال الخدمة العامة تسيّد الشيخ السفير مدرسة دبلوماسية فذة، تخرج فيها جمع من أعضاء السلك الدبلوماسي السعودي الذي قضى فيه الشيخ أربعين عاماً يخدم وطنه، فكان مضرب المثل في الترتيب الدقيق والعمل المحكم والنشاط المتصل، وقد تولى الإدارة الثقافية ثم الشؤون الإسلامية في وزارة الخارجية مدة طويلة، فأصبح همزة الوصل ونقطة الالتقاء بين بلاده وكثير من الشخصيات والهيئات والمشروعات الثقافية والإسلامية في مختلف أنحاء العالم.
وكان من القلائل الذين جمعوا بين العمل السياسي والعلم الشرعي؛ وكم بينهما من البون الشاسع. وقد نأى الشيخ السفير بنفسه عن التعصب والأحزاب، ولم يخلط عمله بميول وتيارات سياسية، بل كان معتدلاً ويقظاً ومدافعاً عن دينه وبلاده ضد الدعايات الهدامة، متمسكاً بأخلاق الإسلام وشيم العرب.
كما عمل الشيخ المبارك في سفارات عدة، ومثّل بلاده في اجتماعات مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي وما يلحقها من أعمال، ونهض بمهامه على الوجه الأكمل، ولم يمنعه ذلك من الاشتغال بالعلم والأدب مع ما كنت تلقيه عليه وظيفته من أعباء، وما تنطوي عليه من مسؤوليات جسام.
والسفير أبو مازن ممن يزن أحاديثه وتصريحاته، ويسمو بنفسه عن أسباب الظنون والريب وما لا تحمد عواقبه؛ فكانت سيرته الدبلوماسية الطويلة نموذجا يحتذى، ومما يؤسف له أن أخباره ومواقفه لا تزال حبيسة الصدور ولم توثق في كتاب.
وأما كتابه (رحلة الأمل والألم) فقد خطه من مداد ذاكرته وهو شيخ مُسنّ، لكنه برع في رواية الحوادث وشرح المواقف واستدعاء التفاصيل بصفاء ونقاوة، وصاغ الكتاب بلغة عذبة سهلة سائغة، وطوع حصيلته الأدبية الكبيرة لرواية وقائع رحلتيه إلى بغداد والقاهرة بسلاسة متخيراً ألفاظه وعباراته، ليسير معه القارئ مستمتعاً بحلاوة السرد ودقة الملاحظة وقوة الذاكرة.
وفي الكتاب عرض مفصل لكفاحه الطويل في سبيل تعلمه، وما واجهه من شدة وعنت ومشقة واغتراب واعتلال صحة وقيود إجرائية، إضافة إلى لمحات مهمة عن أسرته وتقاليدها الراسخة، وعلمائها ومكانتهم في الخليج، وإشارات لبعض الحكام والأعيان والبيوتات الشهيرة، ولقائه بـ (ديكسون) الوكيل السياسي البريطاني في الكويت، واستعانته بعبدالله النفيسي معتمد الملك عبدالعزيز، ونزوله ضيفاً عند البريطاني المسلم عبدالله فاضل المسلماني (وليم ويلمسون)، ورصده لأوضاع الحياة ومظاهر العمران في مشيخات الخليج جميعها عدا عُمان، وزيارته للنجديين في البصرة، وحديثه عمن لقي من علماء بغداد وسراتها، وتفاصيل دراسته هناك وأسباب تعثرها، واتصاله برجل الدولة الكبير والسفير السعودي في المملكة العراقية الشيخ إبراهيم بن معمّر، وما لحظه من توقير العراقيين له.
ثم ينقلنا معه لقصة ابتعاثه إلى مصر بأمر ومنحة من الملك عبدالعزيز، ودراسته في الأزهر ووصفه الدقيق لأحواله العلمية وشيوخه قبل تسعين عاماً، ونيله لشهادته في تخصص اللغة العربية، وما ابتلي به المؤلف من الفاقة والمرض والهزال بسبب تداعيات الحرب العظمى الثانية، وأخباره مع أعلام كبار مثل الأمير عبدالله الفيصل وفوزان السابق ويوسف ياسين وحافظ وهبة وعبدالله فيلبي والزركلي وإبراهيم السويّل وعبدالله الطريقي، ومواقفه وانطباعاته عن أدباء مصر ورموزها الثقافية كالمازني وطه حسين والزيات وأحمد أمين وزكي مبارك وعبدالوهاب عزام وغيرهم.
وقد أورد في كتابه مختارات رفيعة من شعره الجميل، ومن مراسلاته النثرية الرائعة التي كشفت عن موهبة أدبية مبكرة، ويتجلى في الكتاب أثر المخزون الشعري الكبير عند المؤلف في جمال الشواهد الشعرية وحسن انتقائه إياها، وقد بلغ به نبوغه المبكر أن شارك في أثناء دراسته بالقاهرة وهو شاب دون العشرين في إلقاء محاضرات عامة عن الأدب في بلاده، وعن تاريخها المجيد وسيرة مؤسسها الملك عبدالعزيز طيّب الله ثراه. وفي الكتاب محاسن كثيرة يصعب إيرادها في هذا المقال المختصر على وجه التفصيل.
ومع استمتاعي بالكتاب الذي أعارني إياه مشكوراً الصديق أ. د. عبدالله بن عبدالرحمن الحيدري، إلا أنه خالطني شعور (الألم) عند فراغي من قراءته؛ لأن المؤلف لم يتمكن من إنجاز وعده بتأليف كتاب مستقل عن حياته الحافلة وسيرته الزاخرة وأعماله المتنوعة وإنتاجه المطبوع والمخطوط وعلاقاته الواسعة.
ولكن (الأمل) يحدوني أن يكمل تلاميذه الأوفياء وأولاده البررة مساعيهم الحميدة؛ بنشر ما تبقى من مؤلفاته، وجمع شتات مقالاته وقصائده ومشاركاته المنبرية، واستكتاب من عرفه عن قرب وهم كثر، تخليداً لذكراه العطرة، ونفعاً للناس بتراث هذا الشيخ الجليل.
رحم الله الشيخ أحمد المبارك، عاش حياة خصبة مثمرة، نهل من معين آبائه وأسلافه، وأفاد من رحلاته وأسفاره، وجمع بين علوم واهتمامات شتى، وأمد وطنه ومجتمعه بعطاءاته الكبيرة، وأسهم بنصيبه الوافر في الحركة العلمية والأدبية في المملكة بعامة والأحساء بخاصة، ورحل إلى ربه تاركاً أطيب المآثر وأجملها في نفوس محبيه.