د. جمال الراوي
يعرف الدَّهاء -لغويًّا- بأنه جودة الرأي، وحذق ومهارة في تدبر الأمور، لكنه قد يأخذ معاني سلبية؛ فيصبح احتيالًا ومكرًا ومكيدةً وغشًّا. ويختلف الدهاء عن الذكاء الذي يعد النشاط الفكري للعقل البشري، تنتج عنه أناةٌ وبصيرة وحصافة، وسرعة في الفهم والإدراك والبديهة والتعلم، كما أن الذكاء يعد القدرة على اكتساب مهارات جديدة وتعلمها، وتختلف درجة الذكاء من إنسان لآخر، بحسب قدرته على التعلم والإدراك.
ويتجاوز الدهاء الذكاء، ليصل إلى مرحة أعلى منه، لأن الإنسان يفعل قوة فطنة خفية؛ فتصبح لديه القدرة على فهم دقائق الأمور، لكسب موقف، أو للحصول على غنيمة.. والداهية يتفوق على الذكي؛ فالذكي قد لا يسعفه ذكاؤه على تجاوز العقبات، بينما الداهية يتخلص من المواقف المحرجة والصعبة، لأن لديه فهماً في مدارك الناس وعقولهم، يستعمله للتغلب عليهم؛ فيفوز -في النهاية- بسبب صدقه وأمانته وصلاحه، وعدم استغلال دهائه للغدر والإساءة، لذلك تجده شديد الحذر من الظلم، قاسياً في مواقفه وقراراته.
والدهاء من محاسن الحيل، إذا ابتعد عن الوسائل الملتوية، ولم يلجأ صاحبه إلى الطرق الخبيثة لخداع الناس، لنهب أموالهم، أو لتزوير الحقائق، كما يجري -في عالم اليوم- من انتشار لأساليب الترويج لبضاعة فاسدة مغشوشة، أو كما يسمع في الإعلام عن ترويج لحقائق كاذبة، والإساءة إلى الشرفاء والصالحين، ومحاولة شيطنتهم؛ فالدهاء مكيدة حسنة بقصد الخروج من مأزق، يستخدم المرء عقله، ويشغل عقله في تصريف أمر ما، مستخدماً الحكمة الفطنة والحنكة، وهذا ما حصل مع يوسف -عليه السلام-، كما يقول القرآن الكريم: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} (يوسف: 76)؛ فقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: بـ«جواز التوصل إلى الأغراض بالحيل إذا لم تخالف شريعة، ولا هدمت أصلاً».
وقد اختلف العلماء عن أصل الدهاء؛ إن كان صفة، أم حالة من حالات العقل!! والأصل فيه أنه موهبة، لا يستطيع المرء اكتسابه وتعلمه، مثله مثل مواهب وضعها الله تعالى في الناس، لا يستطيع الآخرون الحصول عليها، ويمكن بشيء من الممارسة والمتابعة تعلم أصول الدهاء، بمصاحبة الأصدقاء المتميزين بالدهاء، ومجالستهم والتعلم منهم، وقراءة سير العظماء والدهاة، والبحث عن الصفات التي جعلتهم في عداد الدهاة.
وعند العرب الدهاة أربعة هم: (معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه)، هؤلاء الأربع جمعوا أركان الدهاء كلها، تميز كل واحد منهم بشعبة منه، فأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان -رضي الله تعالى عنه- كان -كما يقال عنه- «حليماً حازماً، عالماً بسياسة الملك، حلمه قاهراً لغضبه، وجوده (كرمه) غالباً على منعه، يصل ولا يقطع»، وجميعها صفات أهلته ليكون أدهى الدهاة؛ فتفوق على غيره بحلمه، وقدرته الفائقة على إمساك نفسه عند الغضب، وإبقائه على حبل الود مع غيره، لا يقطعه أبداً، وقيل بأن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- قال لجلسائه: «تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما، وعندكم معاوية».
أما عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنه-، فهو -كما تقول العرب- للمعضلات، يتميز بسرعة البديهة والحيلة، وحسن التصرف، كان ذا رأي وعقلانية، يستطيع التخلص من المواقف الصعبة بحسن تدبيره، كان له مبدأ في الحياة، لا يحيد عنه أبداً، هو عدم الملل، لا يسعى -أبداً- إلى تغيير حال، طالما أنه حال ينفعه ولا يضره، وكان يقول: «والله لا أمل دابتي ما حملتني، ولا ثوبي ما وسعني، ولا زوجتي ما أحسنت عشرتي، إن الملال من سيء الأخلاق»، ودهاؤه يعود إلى قدرته الكشف عن الأمور الأقل سوءاً، واختيار الأقل منها أذى، كان يقول: «ليس العاقل من عرف الخير من الشر، ولكن العاقل من عرف خير الشرين».
أما «زياد بن أبيه» فقد عرف بأن بلبلة الأفكار، وانتشار الأقاويل والشائعات بين الناس، لا سبيل لإسكاتها سوى بإشغال قائليها في أقواتهم وأبدانهم، وصرفهم عن الحديث في غيرها، وجد السبيل بإيذائهم ومعاقبتهم بالشدة؛ فقال في خطبته البتراء: «وإياي ودلج الليل، فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه»، في قوله تحذير ووعيد لمن يحاول أن ينفذ بمكره وخداعه -في الليالي الظلماء- متخفياً وراء الجدر. وهو أحد الذين وضعوا ركيزتين في الحكم؛ الأولى: إشغال الناس في أجسادهم والفتك بها، والثانية: ملاحقة كل نمام وذائع -بين الناس- للفتنة، ومحرض عليها، وجد فيهما ثباتاً للأمور، وصلاحاً للرعية، ووسيلة لإذعانهم وإخضاعهم للنظام والقانون!! وكان يدعو للعدل، لكنه عدل مترافق مع الغلظة والخوف. كان يحكم في عهد انتشرت فيه الضلالة والفسوق والفجور؛ فبغى الناس وكثر بينهم اللغط والأقاويل، فما كان منه إلا أن فرض هذه القوانين الصارمة، التي يشعر السامع بإيقاعاتها العنيفة والشديدة، ويحس من خلالها نبرة القوة والحزم، يجدها كلمات ذات وقع مريع لكل من تصل إلى أذنيه!!
أما المغيرة بن شعبة، فقد كان رجلاً قوياً، ضخم الذراعين، عريضاً ما بين المنكبين، قال عنه الطبري: «كان لا يقع في أمر، إلا وجد له مخرجاً، ولا يلتبس عليه أمران»، وهي صفة عظيمة؛ فكثير من الناس تلتبس عليهم الأمور، لا يحسنون الاختيار والتدبير، بينما المغيرة كان يستطيع بذكائه ودهائه انتقاء الأصلح بينهما.
في واقع الأمر؛ تقع الكثير من المشاكل الأسرية والاجتماعية والسياسية، بسبب فقدان الدهاء والحيلة، لأن الناس يرون الأمور إما سوداء قاتمة، أو بيضاء ناصعة، لو امتلكوا صفة الدهاء، لعرفوا بأن للألوان درجات كثيرة، يستطيعون التمييز بينها؛ فلا يقطعون من هجرهم، يحتفظون معه بشعرة، لأنهم يعرفون بأن من يخاصمهم فيه درجات أخرى من الخلق، هي أقل قتامة، وقابلة للتعايش معها... ينظرون إلى الأمور نظرة فاحصة، يبحثون -دائماً- عن درجات الخير والشر في كل موقف وحالة، ويحاولون التمييز بينها، واختيار ما يتوافق منها معهم.
ولا بد من الاعتراف بأن الدهاء لا يعتمد -بالكلية- على قدرات عقلية فائقة، قد يعتمد إلى قدرات مادية ومالية، يستطيع بها صاحبها قضاء مصالحه، والتعامل مع غيره على أساس التبادل في المنفعة، دون اللجوء إلى الغش والخداع، وهذا ما يقوم به أصحاب الشركات الكبرى، ممن يحسنون التعامل مع الأسواق، لأنهم يملكون قدرة على تطوير مشاريعهم، والترويج لبضائعهم؛ فالتجارة حرفة تتطلب -في كثير من الأحيان- الدهاء، وهذا حال بعض السياسيين والزعماء ممن يلجؤون إلى استعمال المال لتحييد خصومهم، وكسب ودهم.