د. فهد صالح عبدالله السلطان
من يقرأ بموضوعية وتجرد مساري الحضارة الغربي والإسلامي في العصر الحديث يصل إلى قناعة أدبية بأن هناك صراعاً مستمراً بين الحضارتين وحرباً باردة تظهر مرة وتختفي أخرى. لسنا هنا بصدد بحث أسباب الصراع فقد تم إشباع الموضوع من قبل كثير من الكتاب والباحثين، ويظهر ذلك جلياً في كتاب صدام الحضارات لصامويل هنتنغتون وغيره.. ولكن قد يكون من أهم أسباب استمرار الصراع هو أن الحضارة الإسلامية تستعصي على توجهات الحضارة الغربية التي تنشد الهيمنة الحضارية الفكرية على غيرها.
كما يتبين للقارئ المنصف للحضارتين في العصر الحديث تقدم المجتمع الغربي علمياً ومادياً على الحضارة الإسلامية في مقابل تراجع المجتمع ذاته في الجانب الاجتماعي بأبعاده المختلفة مقارنة بنظيره الإسلامي.. ويستطيع المنصف أيضاً أن يقول إن المجتمع الإسلامي نجح نجاحاً واضحاً في الجانب الاجتماعي بينما تفوقت الحضارة الغربية في الجانب العلمي والمادي. ولكن وإن كان ذلك مهماً فإنه ليس الأهم، فالأهم هنا هو: من هو المستفيد الأكثر من الطرفين؟ والإجابة في نظري واضحة. فالمستفيد الأول هو المجتمع الإسلامي الذي استطاع المحافظة على قيمه الاجتماعية الجميلة وفي نفس الوقت أخذ وبكل تواضع إنجازات ومنتجات الطرف الآخر، وذلك استناداً إلى قيمه ومنهج شرعه (الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أولى بها)، بينما لم يستفد أولئك مما لدينا.. وحال كبرياؤهم بينهم وبين الإفادة مما لدينا من مرتكزات وقيم ومبادئ اجتماعية يقوم عليها التكوين الاجتماعي وتمثّل أسساً قوية وقواعد متينة لبناء حضارة متينة، نامية مستدامة. لقد أخذنا بكل ما توصلت إليه حضارتهم العلمية وإبداعاتهم المهنية وقمنا بالاستفادة من معطيات ثوراتهم الصناعية المتعاقبة ووقفنا على آخر إبداعاتهم التقنية كالذكاء الاصطناعي وذكاء الأعمال والرقمنة ومخرجات الثورة الصناعية الرابعة واستيراد المتميز منها بعد تكييفها مع يتناسب مع مجتمعنا.. والمملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج العربي تمثّل مثالاً حياً ورائعاً لذلك.. بينما أشغلوا أنفسهم بمحاربة قيم ومبادئ الآخر والترفع عن الإفادة منها بدلاً من توظيفها واستخدامها لمعالجة الانحرافات الاجتماعية لديهم.. وهذه حقيقة تاريخية يعرفها ويقرها الكثير من عقلائهم، وقد سمعتها مباشرة من بعض أصحاب الرأي منهم.
هذه القراءة تقودنا إلى عدة استنتاجات لعل من أهمها:
أولاً: أننا مجتمع يبحث عن الحقيقة وينشدها، وكما يقول الإمام الشافعي (... وإن وجدنا عند غيرنا أفضل مما عندنا أخذنا به)، وهذا بحد ذاته مؤشر إيجابي للتطور والنمو المستدام.
ثانياً: أننا مؤهلون للوصول للقمة والتربع عليها قبل غيرنا.. على اعتبار أننا نبني هجيناً حضارياً مستمداً من تراثنا الجميل ومنفتحاً على حضارات الآخرين وإنجازاتهم ومنتجاتهم العلمية.
ثالثاً: إن الاستقرار والنمو الحضاري يعتمد بشكل شبه كلي على التكوين والاستقرار الاجتماعي.. ولا شك أن بعض المجتمعات الغربية وباعتراف أهلها تعاني معاناة كبيرة من تردي الأوضاع الاجتماعية. فالدلائل الإحصائية تؤكد تأثر بعض تلك المجتمعات سلبياً بشكل واضح جراء ظواهر اجتماعية خطيرة لم يعد بالإمكان السيطرة عليها كانتشار ظاهرة المخدرات والأمراض النفسية والشذوذ والانتحار وارتفاع معدل الجرائم وتراجع مستوى الأمن الاجتماعي وتدهور التكوين الأسري وتراجع أهمية الأسرة وشيخوخة المجتمع وكثرة المواليد غير الشرعيين وتراجع العلاقات الاجتماعية وارتفاع معدلات القروض الاستهلاكية والديون الفردية ... إلخ، وهي تحديات ومؤشرات خطيرة تنذر بتآكل الطبقة الاجتماعية الوسطى التي تقوم عليها الحضارات عبر كافة الأزمنة. لقد بدأ عقلاؤهم يدركون أن التقدم العلمي والمادي وحده لا يكفي لبناء حضارة متينة مستدامة وأنهم بحاجة إلى تكوين اجتماعي راسخ يدعم التقدم العلمي ويعزِّز الإفادة منه واستمراره.
أما حضارتنا فهي وبما تحمل من مبادئ وقيم وانفتاح على الآخر مؤهلة -بإذن الله - للتربع على قمة الحضارة الأممية وقيادتها وليس ذلك على الله بعزيز.
حفظ الله وطننا وقادتنا ومجتمعنا من كل مكروه.