د. محمد بن إبراهيم الملحم
الانغلاق على فكرة معينة أسبابه متعددة وسوف نتأمل بعضها اليوم، أولها قصور العلم، وهو ما يمكن ملاحظته في أولئك الذين تحصيلهم العلمي في المسألة محل النظر هو عن طريق التلقي السلبي، وأقصد به استقبال المعلومة من المعلم أو الأستاذ أو الشيخ أو العالم أو الكتاب وحفظها دون مناقشتها ذلك أنها ليست محل نظر بالنسبة له، والواقع أن هذا الأمر لا ينبغي أن يكون إلا لأمرين اثنين هما قول الله عز وجل أقصد به تلقي القرآن الكريم وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم- في أحاديثه الشريفة الثابتة وحفظها والتسليم بها، بينما باقي المعرفة ينبغي أن يكون تلقيها عن اقتناع وفهم كامل اللذين يتأتيان من خلال المناقشة العلمية، سواء كانت جمعية أو حتى في مستوى الفرد بمناقشته ما يستقبله من أفكار مع نفسه.
بيد أننا نتحدث الآن عن حالة نوع من الناس ألفوا تلقي العلم (كل أنواع العلم) بهذه الطريقة المدرسية البحتة، وأقول «المدرسية» لأن هذا هو واقع ما يسمى المدرسة؛ فهي تقدم مقررات اعتمدتها سلطة معرفية عليا هي الوزارة وألزمت كلا من المعلم والطالب بتعاطيها تدريساً وتعلُّماً بافتراض صحتها المطلقة، وهذه الحالة أسهمت في تكوين شخصية المتعلم السلبي الذي نتحدث عنه فلا تتمكن شخصيته المعرفية بتكوينها السلبي هذا من مطارحة الفكر المناهض لما تحمله فكل ما هو مخالف خاطئ، وليس هذا نقد للتعليم النظامي وفكرته ومفهومه، ولكنه قدره الذي لا مهرب له منه، فهو قائم على نقل المعرفة وليس تعاطيها.
السبب الثاني للانغلاق هو الجانب الاجتماعي؛ فعندما يكون الحوار في سياق اجتماعي معين (ندوة أو محاضرة - مجلس ديوانية - اجتماع عمل...) وتقوم الحجة الواضحة ضد طرف له قيمة اجتماعية مهمة (أو هو يرى أن له هذه القيمة) فإن سطوة هذه القيمة تردعه أن يسلّم بالرأي المخالف لرأيه مهما ظهر أنه صحيح، سواء صحة مطلقة أو بوجه من الوجوه، خاصة أن كثيرا من الناس يرى أن من ضمن أركان بناء قيمته الاجتماعية تلك هو ما يحمله من آراء سديدة أو معرفة وخبرة وحكمة والتي سيقوضها قبوله لرأي ينقض رأيه وحكمته.. وعلى الرغم من أن النظرة الأخلاقية المتحضرة لمثل هذا القبول (لو حصل) يترتب عليها أن ترتفع قيمة هذا الشخص حضاريا إلا أنه هو شخصيا لا يتبني هذه الفلسفة، وفي أفضل الأحوال فإن بعضهم ربما لا يضمن تبني كل (أو أغلب) أفراد المجتمع لهذه النظرة الإيجابية؛ مما يجعله أكثر ميلا إلى تبني رفض الرأي المخالف الصحيح حفاظا على قيمته وبعدا عن الشبهة، وهذا (بين قوسين) يؤكد أهمية توعية المجتمع وتربية الطلاب منذ الصغر وفي المدارس على أن الاعتراف بفكر الآخر الصحيح هو قيمة إيجابية ترفع من شأن صاحبها وليس تخفضه.. والسؤال: من يفعل ذلك يا ترى؟ وفي أي منهج دراسي نعثر عليه!
السبب الثالث للانغلاق هو التحيز الشخصي؛ فهناك نوعية من الشخصيات تتمحور حول ذاتها فلا تطيق أن تراها في حالة ضعف أيا كان السبب، ومن ذلك أن تقع في حفرة المناقشة أمام من يفاجئها بحجة داحضة وعلى الرغم من وضوح الحق في الرأي المخالف فإن هذا التكوين الشخصي لقيمة الذات يمتنع معه تماما أن تسلّم بصحة ما يقوله الآخر، ولا يعود ذلك بالضرورة إلى محافظة على مظهر اجتماعي أمام الآخرين، بل هو أحيانا حالة شخصية بحتة فقد يكون الطرفان منفردين وحدهما في مكان مغلق أثناء النقاش ومع ذلك فهي «عنز ولو طارت» كما يقال، بل إنك تجد هذه الظاهرة بين شخص وشخص آخر يفترض أن يكونا قريبين من بعضهما بدرجة تختفي فيها هذه الخصلة، مثل الزوج وزوجته أو الأخ وأخيه أو الابن وأبيه، ولكنها السمات النفسية الذاتية، والتي تعلقت بجينات الإنسان بقوة فلا تزول بسهولة ما لم تحظ بتدريب مكثف أشبه ما يكون بعلاج سلوكي ممنهج يتم تكريسه معه منذ الصغر وهو ما يندر حدوثه إلا لأفراد من مستوى اجتماعي عال توافرت لها كل وسائل العناية والرعاية التربوية بشكل مخصوص وغير نمطي.
في النوعين الأخيرين من الانغلاق العقلي فإنك ربما تجد أحد هؤلاء المنغلقين ممن يتسم بالانفتاح العقلي في جوانب متعددة بينما هو يمارس الانغلاق في جانب معين، لا لعدم تفهمه لمبدأ الانفتاح العقلي وإنما لأحد الأسباب المذكورة والتي غالبا هي تسير في إطار تحقيق مصلحة الذات فقط، وهو ما يسهل مشاهدته وملاحظته في أكثر من موقف وأكثر من شخصية حولنا.
هذا النوع من الانغلاق هو انغلاق طوعي اختياري وهو أخطر من ذلك الذي يحدث بسبب غياب مهارات الإبداع لدى الإنسان والتي تكلمنا عنها في حلقة سابقة، وهو يعكس حالة صعبة يعيشها المجتمع إذا كثر فيه مثل هؤلاء الأفراد، وخاصة إذا كانوا من رواد الفكر وقيادات المجتمع في أي مجال، وسوف نتحدث عن الانغلاق العقلي للمعلمين في الحلقة القادمة.. فابقوا معنا..
** **
- مدير عام تعليم سابقا