أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
واقترنت الفيزياء عبر القرون القليلة الماضية أيضا بسجل حافل من الإنجازات التنظيرية العلمية الخالدة وفقا لما سيأتي تفصيله في السياقات اللاحقة من هذا المقال كنظرية الجاذبية ونظريتي النسبية الخاصة والعامة ونظرية ميكانيكا الكم ونظرية الأوتار الفائقة التي ربما ستمثل الصيغة النهائية إن صح التعبير لنظرية الحقل الموحد أو نظرية كل شيء.
ومن الجدير ذكره في هذ الصدد أن توج نيوتن نظريته الثورية للجاذبية تحديدا بقوانينه الثلاثة وبمؤلفه الموسوم «أسس الرياضيات» الذي ضمنه ابتكاره المتعلق آنذاك بحساب التفاضل والتكامل. ولا شك أن هذا الحساب، الذي أبدعه نيوتن، يعد تطويراً فاعلاً لأعمال كبلر وديكارت من ناحية وإنجازاً منظورياً ثورياً ترك بصمات لا تنكر في المجال الفيزيو-رياضي الحديث من ناحية أخرى. ونتيجة لهذا الوضع النيوتوني الثوري تكَّون في هذه الفترة من تاريخ علم الطبيعة وما تلاها من فترات منظور علمي نسقي جديد بعدت فيه الشقة بين الهندسة الإقليدية وغير الإقليدية (هندسة لوبا تشيسكي هربرت). كما كبر الفارق في هذا المنظور بين أسس فيزياء أرسطو وبطليموس وألبرت الكبير وتوماس الإكويني وبين فيزياء كوبرنيكوس وجاليليو ونيوتن نفسه. وقد تأثر منظور الفكر العلمي بشقيه الإنساني والطبيعي في هذه الفترة أيضا بفكر ديكارت الذاتي وبيكون المنهجي وكونت الوضعي ومالتوس المجرد وسارتر الديكارتي الأصل. كما تأثر المنظور العلمي بشقيه الإنساني والطبيعي بالفلسفة الديالكتيكية والمادية التاريخية ذات الأصل الهيجلي ونقيضها المتمثل في الفكر الرأسمالي الديموقراطي الحر الذي لازمه في الآن نفسه ظهور عدد من المؤلفات التي أرغمت منظور العلم بشقيه المذكورين آنفا لاتخاذ مسار ترتسم على تفسيراته للأسف آثار هذا الفكر بسلبياته المختلفة. ومن أمثلة هذه المؤلفات «نقد العقل الخالص» لكانت، و»أصل الأنواع» و»أصل الإنسان» لداروين الذي أسس عليهما سبنسر فيما بعد مبدأه عن الانتخاب الطبيعي. كما تأثرت آنذاك تفسيرات الفكر العلمي وتأويلاته عامة الإنسانية والطبيعية منها بـ»الطوطم والتابو» و»الإيجو والإيد» لفرويد، و»جامع الدعوى» لكارل ماركس و»مقال عن العقل الإنساني» لجون لوك، وكتابات جاك تورجو عن فلسفة التاريخ وهيجل عن مسار العقل في التاريخ.
ومن نافلة القول التأكيد هنا أن مسار الفكر المكتوب لعلم الطبيعة في هذه الحقبة من تاريخ أوروبا تحديدا قد تحولت تفاسيره من منظور دجماتي متأزم مرتبط بالمعتقد الديني الكنسي إلى منظور للتفاسير النسقية العلمية البرجماتية المرتبطة بالمنهج الفروضي الاستدلالي الاحتمالي المادي التأويل. فتبني هكسلي وغيره من الليبراليين المعارضين للتيار الديني نظريات هذا المنظور كنظرية «التطور» لداروين وقوانين الانتخاب الطبيعي التي أقيمت على أسس تنظيرية لمفهوم الصراع من أجل البقاء. كما تبنى هيجل هذه النظرية واعتبرها فلسفة كونية جديدة أقام عليها نظريته المعروفة بـ»الواحدية» التي قصد بها دحض مذهب «الاثنينية». ومن الضروري التأكيد هنا على أن نظرية داروين قد استندت أصلا إلى أعمال كتّاب سابقين من مثل لامارك وليننا يوس وبوفون وسميث وكوفييه ونيوتن. كما اعتمدت الدارونية بدرجة أكبر على كتابات مالتوس وتشارلز ليل وفكر هيجل الذي دافع داروين عنه في كتابه أصل الأنواع. ولا ننسى أن نذكر هنا أن داروين قد تأثر أيضاً بشكل مباشر بآراء وليام سميث وجيمس هوتون صاحب «النظرية «الإفرادية» الذي أفاد كثيراً من أعمال سوسير وسكروب. وتعد أفكار سبنسر المعروفة بـ»الدارونية الاجتماعية» التي فسر العلماء بموجبها التغيرات في المجتمع الأمريكي تفسيراً بيولوجياً مثالا صارخا آخر على مدى تأزم المنظور آنذاك وتعلقه فكرا ومحتويً بمبدأ الصراع من أجل البقاء. ولا غرابة في ذلك فإن سبنسر هو من حملة فكر مالتوس الذي نادي بحق البقاء للأقوى في عالم، حسب رأيه، تزداد فيه الموارد بمتواليات حسابية بينما يزداد السكان فيه وفقا لمتواليات هندسية. وقد تجلي نداء مالتوس بوضوح في كتاب سبنسر الذي ألفه بعنوان «نظرية حول السكان»، مما يؤكد يقينا مدي تأثر سبنسر بفكر مالتوس وبمنظوره السكاني. ولا شك أن مثل هذا الفكر الصراعي المتأزم قد طال للأسف عالمنا المعاصر فأثّر على رؤية بعض المفكرين لمسار التاريخ ومنهم على سبيل المثال لا الحصر هنتنغتون صاحب مقولة «صدام الحضارات» وفوكو ياما القائل بـ»نهاية التاريخ». فقد فرضت هاتان المقولتان ولا أقول النظريتين على العالم منظورا سياسيا سلطويا عزز بشكل نمطي فرص تأزم مفاهيم الصراع بين الشعوب والحضارات. كما فرضت المقولتان منظورا تعسفيا متأزما يقصي شخصيات الشعوب الاعتبارية ويختزل سيادات الدول ضمن إطار النظام الديموقراطي الأمريكي المزعومالذي يعده فوكو ياما نهاية التاريخ. وهكذا ظلت المناظير المفاهيمية متأزمة بين مد وجزر، إلى أن طغي على أروقة علم الطبيعة ومحافله في منتصف القرن الماضي تحديدا منظور الثورة الكمية الذي شمل مفهوم التحليل المكاني ومفهوم الاحتمال ومفهوم الوضع والإمكان. وقد تُّوجت هذه الفترة من تاريخ علم الطبيعة بظهور نظريتي «النسبية الخاصة والعامة» لإنشتاين اللتين رافق حدوثهما كما أشرت سابقا الكشف عن الدقائق النووية في فيزياء الكم. فغيرت هذه النظرية طبيعة قراءاتنا لتاريخ الفكر وواقع الفكر في التاريخ، وأثرَت المعرفة بنسبية المكان والزمان والحركة والمادة والطاقة. كما رفضت هذه النظرية المفاهيم المطلقة للمعرفة النيوتونية الحتمية الأبعاد مثلما رفضها آرنست ماخ من قبل. وقد استعان بمفاهيم هذه النظرية فريدمان وهابل لتأكيد فرضية التمدد الكوني. كما استعانت بها وبالدقائق النووية لنظرية الكم، نظرية «الانفجار العظيم» التي تعزي نشأة الكون إلى فتق انفجاري أصاب رتق المادة الأولى للبنية الكونية كما أشرت إلى ذلك في سياق سابق من هذا المقال. ومن الجدير بالذكر الإشارة هنا إلى أن إنشتاين لم يتأثر بأعمال آرنست ماخ فحسب بل تأثر أيضا بأعمال ماكسويل وماكس بلانك. وتأثر إنشتاين أيضا بمفاهيم فراداي الذي عاش فترة ماكسويل الذي تأسست نظريته على معطيات ديكارت عن الدوامات المائية. ويذكر الدكتور راشد المبارك رحمه الله في كتابه الموسوم «الكون وماذا نعرف عنه» أن أعمال ماكس بلانك كان لها أكبر الأثر في إثراء المنظور المفاهيمي لعلم الطبيعة في مجال نظريات الإشعاع والطاقة. فأعلن بلانك أن الطاقة لا تخرج بشكل مستمر وإنما تخرج في شكل وحدات صغيرة أو حزم منفصلة. كما أوضح أنه كلما زاد تدفق الطاقة زاد انطلاقها في صورة دفعات قوية وبمضاعفات أكبر بكثير من وحداتها الأصلية. ولهذا سمي بلانك هذه الوحدات المنفصلة والمتدفقة من الطاقة «الكوانتا» التي تمثل اليوم وفقا للدكتور المبارك طيب الله ثراه أساس منظور علم في زياء الكم. فمن الواضح إذن أن أعمال بلانك قد أسست لظهور «نظرية الكوانتم» التي بلا شك كان لها أكبر الدور في إثراء المنظور المعرفي لعلم الطبيعة النووي، فزاد هذا الدور من فرص تعزيز مفاهيم الاحتمال ونقض مفاهيم الحتم النيوتوني المطلق. ولعل التحليلات الكهرومغناطيسية والأطياف الضوئية ونظريات الحراك النووي هي من أكثر مجالات علم الطبيعة تأثرا بمفاهيممنظور فيزياء الكم. ولا شك أن اقتران «نظرية الكوانتم» بـ»نظرية المجموعات»، التي تقوم على التماثل بين مجموعة من العناصر التي تخضع لشروط مشتركة، قد ساعد بشكل فاعل في توفير وسيلة من أهم الوسائل لمعالجة المسائل المعقدة في المجالات المختلفة لمنظور علم الطبيعة المعاصر. وتُبذَل في الوقت الراهن جهود مضنية للاحتفال باستنباط نظرية ذات منظور نسقي جديد، تسمى «نظرية الحقل الموحد». ومن المؤمل أن تربط هذه النظرية بين نظريتي النسبية العامة والكوانتم في حقل تفسيري كوني واحد، إلا أن استنباط هذه النظرية قد تأخر بسبب عقبة الجاذبية التي أعاقت إتمام هذا الربط. وإلى أن تُحَلَّ هذه الإشكالية سيظل المنظور المعاصر لعلم الطبيعة اليوم رهين فكر هاتين النظريتين «النسبية العامة والكوانتم» اللتين تحتلان قمة هرم علم الطبيعة، وتمتطيان صهوة مسار مفاهيمه الحذرة من المستقبل. هذا المستقبل الذي قد يقترن بتحولات مفاهيمية تغير من واقع تاريخ الفكر المعاصر وتفرض عليه منظورا ربما يختلف بشكل جذري عن المنظور الذي اقترن بحقبة النسبية أو الكوانتم. ولا شك أن هذه التحولات، إن حدثت، ستقود وفقا لبعض كتابات أ. د. محجوب عبيد طه رحمه الله إلى وضع تقل في النظرية الموجودات والتفاعلات الأساسية وتكبر فيها مجموعات التماثل وتندرج القوانين تحت أطر نظريات أعم وأشمل من نظريات اليوم. ولا شك أن هذا التحول الحذر لمنظور علم الطبيعة المعاصر سيكون نتاجا لسلسلة من الجهود التي ستبذل خلال هذا القرن لحصر الاحتمالات وتضييق نطاق المقبول من المبادئ والمفاهيم التي تقتضيها صيغ التفاعلات الأساسية المرتقبة. إن ظهور «مبدأ التطبيع» «ومبدأ اللا تغير القياسي» الذي تبنى «نظرية الأكوان الكمية» ومبدأ «التماثل الفائق» في نظرية «الأوتار الفائقة» هي بلا شك مؤشرات قوية عند أ. د. محجوب عبيد طه طيب الله ثراه للتدليل على الصيغ المرتقبة للتفاعلات الأساسية المقبولة المتوقعة.
من هذا العرض السابق لطبيعة الفكر العلمي بشقيه الإنساني والطبيعي وتأزم مناظيره وما يتبع ذلك التأزم من تحولات مفاهيمية عبر مراحل التأزم المختلفة، يتضح أن مسار الفكر العلمي وبخاصة الطبيعي منه مسار ديناميكي حركي غير ثابت. فإذا تغير منظور ذلك الفكر تتغير تبعا له الحقائق والفروض والنظريات والنظم والبرامج بل والسبل والطرائق العملية ونماذج إعمال العقل التفكيرية والفكرية على حد سواء. هذا يعنى أن العلم لا يهب الباحثين الحقائق التي تناسب كل الأزمان أو الشروحات غير القابلة للتغيير والتبديل، وإنما يهبهم الحقائق الوقتية التي تأبى الجمود وتترقب المستقبل بحذر وتتحفز لاستقبال التغير المحتوم. فما يقدمه العلم إذن ما هو إلاّ اجتهاد مرهون بحالة هذا العلم وبمنظوره السائد وبالتحولات التي تفرضها ظروف التغير لأطره الفكرية في زمان ما. فما نعرفه اليوم عن الفكر العلمي لن يكون آخر ما ستعرفه البشرية عنه، ولن تكون رؤيته اليوم لظواهر الحياة والطبيعة والكون هي الرؤية نفسها في المستقبل. وكذلك لن تكون البراهين التي صُدّقت بها نظرياته في الماضي ربما صادقة غداً وخاصة بعد أن اقتنع مفكروه بضرورة تبديل براهينهم على صدق نظرية ما بمبدأ تكذيبهم لها كي تكسب النظرية حرية التطبيق التي حرمت منها أمدا طويلا بسبب قيود البراهين التي فرضها منظور الماضي لإثبات صدقها. وهكذا سمح مفكرو هذا العلم لعدد من النظريات بدخول ساحة العمل التي ما كان من الممكن لها أن تدخلها لو لم يستبدل منظور البرهان المتبع لإثبات صدق النظريات بمنظور تكذيبها. ومن المؤكد أن منظور مبدأ تكذيب النظرية الذي أورده بوبر في كتابه «منطق الكشف العلمي» فغيّر به وجه تاريخ الفكر والعمل التنظيري البديع لن يكون في رائي المتواضع آخر منظور أيضا لاعتماد صدق النظريات. ولهذا فإن النظريات التي قام علماء الطبيعة تحديدا بصياغتها ووضع أسس فلسفتها والتفاني من أجلها سوف تطوى كطي السجل للكتب أمام ناظريهم حال ثبوت عجزها عن تفسير الظواهر التي من أجلها صيغت. وسوف تستبدل صيغ هذه النظريات بما سواها من الصيغ الأنسب للتفسير والأصلح لمنظور ذلك الحين. هذا يعني أن البنى النظرية والتطبيقية للفكر العلمي بمناظيره المختلفة ليست وقتية وغير مطلقة فحسب بل انتقائية أيضا ونسبية بكل تأكيد. إضافة إلى أنها لا تعطي أكمل تمثيل لما يكون عليه الواقع المبحوث ناهيك عما يجب أن يكون عليه هذا الواقع. فقد بلغ معدل التغير المستمر في الفكر العلمي درجة بحيث إذا ظنت البشرية أنها اتقنت فهم شيء منه اليوم يغدو عاجلا أمرا يعفو عليه الزمن وتطويه صحائف المكان. ولهذا كان التاريخ دائما وسيظل كذلك مجموعة متصلة من الأحداث ذات المغزى الذي اصطلح البشر على تسميته بـ»عالم اليوم». هذا العالم الذي يكون ماضيا ويكون حاضرا وسيكون مستقبلا ثم سرعان ما يصبح ماضيا مرة أخرى في دورة زمكانية تثقل كاهل حاملها بالذكريات التي تنفضها عنه رياح النسيان فتذروها خارج أفق انتباه العقل الجمعي الذي ما فتئ يعبأ بها ويرعاها. إن المزاج المفاهيمي لمنظور الفكر العلمي المتألق بالتجدد والتغير والتحول لجدير بأن تستقصي مفاهيمه وترصد تقلباته وتستقرأ تحولاته وتحل أزماته ضمن الإطار المعرفي لتاريخ فكر علم بعينه وواقع فكر ذلك العلم في التاريخ.