أ.د.عثمان بن صالح العامر
كما أن الأبدان تمرض فالنفوس هي كذلك يعتريها الوجع وتصاب بالألم، ومن بين الأمراض التي تستشري بنا وتفتك بذواتنا ونحن ربما لا نعلم أو أننا أصلاً لا نكترث بهذا النوع من البلاء ما يعرف علمياً لدى الأطباء النفسيين (اضطراب الشخصية) الذي ارتبط تاريخياً بشخصية نرجس، ذلك الشاب الإغريقي الوسيم ابن أمير النهر «سيفيسوس».
لقد كان هذا الشاب - كما تقول الأساطير - وسيماً بشكل كبير، مما جعل كل من يراه يعجب به ويريد التعرف عليه ومحبته، إلا أن نرجس هذا رفض الجميع، حتى الشابة الجميلة «إيكو» حاولت التقرب إليه إلا أنه أعرض عنها، ووقع بحب وعشق انعكاس صورته الخاصة، حتى أنه كان يجلس عند البحيرة يتأمل في انعكاس صورته عليها إلى أن مات من الجوع. ومن هذه الشخصية الأسطورية تسمت أزهار النرجس البري الأصفر منه والأبيض.
هذا هو أول شخص - عُرف في التاريخ - وقع ضحية حب الذات لهذه الدرجة، ونقلت أسطورته لنا فصرنا ننعت كل من تلبس بهذا السلوك ولو نسبياً بأنه شخص نرجسي.
هناك اليوم من أغوتهم وسائل التواصل الاجتماعي وأغراهم بريق الشهرة وخدعهم سراب المصفقين وأعجبتهم كثرة المتابعين فظنوا أنهم غير، تلبسهم هذا الداء النفسي المشين، فالتحقوا بمنظومة النرجسيين الذين يعتقدون أنهم لا مثيل لهم ولا شبيه، يتحدثون عن أنفسهم بلا انقطاع، يدعون معرفة كل شيء، يستعرضون مهاراتهم حتى وإن كان فيها إسفاف وخروج على القيم المجتمعية والمألوف من العادات، يشعرون غيرهم بأنهم حصلوا على أجمل شيء في الحياة فهم الأفضل والأجمل والأكمل على الإطلاق وهم ليسوا كذلك، يلتقطون صوراً لأنفسهم بالمئات في كل صباح وفي المساء، يبحثون عن كل شيء يشهرهم ويبرزهم بأي ثمن، وتساعدهم التقنية في إظهارهم بأجمل مما هم عليه حقيقة، وكأن هذه «الفلاتر» هي صفحة النهر التي جعلت نرجس يعشق نفسه ويعيش على هذا حتى مات.
لقد انتشرت الثقافة النرجسية لدى شريحة من مرتادي العالم الافتراضي، خاصة عندما وجد أصحاب الأفكار ورجال الأعمال وسيلة مثالية للإعلان والتسويق والإشهار لأفكارهم أو بضاعتهم أو سياحتهم أو منتجاتهم أو حتى أشخاصهم، وهم - أعني أصحاب السلوك النرجسي - في نفس الوقت اعتبروا تسليع الذات السبيل المعبد الموصل للثراء السريع.
لم ينتهِ المشهد بعد فهؤلاء المرضى تجاوزوا المظاهر للمخابر فصاروا من ربان الكلمة وأدعياء الثقافة ورموز الفكر ومنظري السياسة وهوامير الاقتصاد وأساتذة النفس وعلم الاجتماع.
أكثر من هذا ينتظر هذا المصاب بكلمات المدح وعبارات الثناء والإطراء, ويرحب بكل من يدعمه في تعزيز ذاته وتقوية إعجابه بنفسه، وربما قيل فيه من المديح المدعوم بأبيات الشعر، المرصع بكل مفردات التبجيل التي في قاموس العرب أجمع، مع أنه أقل من ذلك بكثير. وفي نفس الوقت «يبلك» من أعطاه وزنه الحقيقي، وعرفه من هو أو على الأقل لم يشارك في دعمه وتعظيم نرجسيته التي لا نصيب لها في شخصيته على الحقيقة، والمشكلة أن هناك من اغتر بمثل هذه الشخصيات الفارغة وركب الموجة حتى صار في خندق واحد مع الكثيرين من السواد السائرين خلف النرجسيين للأسف الشديد، وإلى لقاء والسلام.