د.نادية هناوي
منذ أن تحلَّى النقد الأدبي بالعلمية وهو يستمد أصوله من مناهج منضبطة في أطر نظرية وبمرجعيات ذات أبعاد فلسفية وبحواضن فكرية شتى. وظلت هذه المناهج في حالة تغير وتوسع مستمرين. ومنها المنهج الاجتماعي الذي بدأت بوادره تظهر في القرن التاسع عشر من خلال الاهتمام بدراسة الأدب كظاهرة فنية في نطاقها البيئي وتفسيرها في ضوء المعطيات الشخصية للأديب وبيئته في العصر الذي عاش فيه. ويعد كتاب مدام ديستال ( الأدب في علاقاته بالمؤسسات الاجتماعية) الأول في تطبيق هذا المنهج ثم شاع في نقد الروايات الواقعية. وما أن ظهرت البنيوية حتى خفتت حدّة هذا المنهج وتراجعت. وغدا النقد البنيوي مهيمناً بتنظيراته النصية لكن سعي بعض مُنظّري البنيوية إلى التوفيق بين النصية البنائية والسياقية الاجتماعية للأدب أدى إلى أن يستعيد النقد الاجتماعي بعض أهميته وكانت حصيلة التداخل بين المنهج الاجتماعي والبنيوية، المنهج السوسيونصي على يد لوسيان غولدمان.
ومع ظهور نظريات الانفتاح ونظريات ما بعد البنيوية تزايد التداخل في التخصصات والمنهجيات بين المناهج والعلوم في مرحلة ما بعد البنيوية، وتوسعت الدراسات أكثر فتعدى النقد الاجتماعي منطقة المنهج والوظيفة ليكون علماً قائماً بذاته سُمّي علم اجتماع الأدب.
وأول دراسة بشرت به كانت لشوكينغ في كتابه (سوسيولوجيا الأدب) عام 1931 أما غي ميشو فكان أول من أطلق علناً فكرة السوسيولوجيا الأدبية في كتابه (مدخل إلى علم الأدب )عام 1950. وتجلى هذا العلم واضحاً في منتصف القرن العشرين مع جورج لوكاش ولويس التوسير ثم لوسيان غولدمان وكتابه ( المنهجية في علم الاجتماع الأدبي ) وبيير ماشيري وكتابه ( نظرية الإنتاج الأدبي) وبيير زيما وكتابيه (النقد الاجتماعي) و(نحو علم اجتماع للنص الأدبي) وبيشوا وكتابه ( التاريخ الأدبي الفرنسي) فضلاً عن دراسات أخرى كثيرة لكودويل وتيري ايغلتن وإدوارد سعيد وفرديك جيمسون وجان ماري كاريه وهنري بير وتيبوديه وروبير اسكاربيت.
وقد حظي هذا العلم بالاهتمام عالمياً وعربياً وغدت مفاهيمه واصطلاحاته توظف في نقد النصوص الأدبية على اختلاف أجناسها. وصار الباحثون الاجتماعيون ودارسو الأدب على بينة من مواضعات الدراسة الاجتماعية العلمية للأدب التي هي مختلفة عن مواضعات النقد الاجتماعي.
وإذا كان المنهج الاجتماعي قد شاع تطبيقه لدى أغلب نقادنا المعاصرين ومنهم فاضل ثامر ورئيف خوري وعمر فاخوري وشكري محمد عياد، فإن المنهج السوسيونصي عرفه كثيرون أيضاً وطبقوه على نصوص شعرية وسردية وعلى وفق سياقاته الموضوعية، وطبقه باحثون جامعيون مثل الدكتور حسين الواد في أطروحته (البنية القصصية في رسالة الغفران) وطاهر لبيب في أطروحته ( سوسيولوجيا الغزل العربي الشعر العذري أنموذجاً).
أما علم اجتماع الأدب فلاحت بوادره الأولى في كتابات بعض المفكرين الذين تمتعوا بحسٍّ نقدي ثم أخذت تظهر دراسات جامعية عربية تطبق التداخل المعرفي بين النقد الأدبي وعلم اجتماع أدب الذي غدت مفاهيمه واصطلاحاته توظف في نقد النصوص الأدبية على اختلاف أجناسها. وصار الباحثون الاجتماعيون ودارسو الأدب على بينة من مواضعات الدراسة الاجتماعية العلمية للأدب التي هي مختلفة عن مواضعات النقد الاجتماعي.
وأولها كتاب المفكر السيد ياسين ( التحليل الاجتماعي للأدب) عام 1970 الذي يعد رائداً في تطبيق علم اجتماع الأدب ثم توالت الدراسات مثل كتاب ( السوسيولوجيا والأدب) لقصي الحسين وغيره كثير.
والفروق في التحليل النقدي كبيرة بين تبني النقد الاجتماعي وبين العمل على وفق مواضعات علم اجتماع الأدب والأسباب متعددة، منها:
1- أن مقولة ( الأديب ابن بيئته) هي عامة وبديهية في المنهج الاجتماعي بناءً على معادلة هيبوليت تين (العرق /البيئة /الزمن) ومحصلتها علاقة انعكاسية ثنائية بين الأديب ومجتمعه، يسعى الناقد إلى تحديدها وهو يحلل سيرة الأديب ويشرح مضامين نتاجه الأدبي ويفسر أثر المجتمع فيها بينما يرتكز علم اجتماع الأدب على علاقة ثلاثية الأطراف هي ( الأديب/ النتاج الأدبي/ القارئ) وبما يجعل تأثير الأدب في المجتمع متجسداً من خلال تأثير المجتمع في الأدب.
2- أن الاجتماعية كمنهجية محدودة التطبيق بينما الاجتماعية كعلم قائم بذاته هي متشعبة تمتد إلى حقوق المؤلف وعلاقة نتاجه بالجمعيات الأدبية والجمهور الثقافي وطرائق التمويل والتسويق وسياسات الكتاب والسمات الثقافية.
3- يحتل المؤلف المحور في النقد ذي المنهجية الاجتماعية بينما يكون النتاج الأدبي هو محور الدراسة الاجتماعية للأدب من ناحية عدد صفحات النتاج ومدى انتشاره وتأثير مضمونه على المجتمع وحكم الناس على قيمته وإقبال القُرّاء عليه واستهلاكه وتعديه الحدود الجغرافية التي طبع فيها لينتشر خارجها فضلاً عن محددات ثقافية تتمثل في انتماء الكاتب إلى قطاع أو جماعة أدبية وحدود هذه الجماعة و هل هي محدودة تدور في نطاق طبقة المثقفين مثلاً أم أنه ينتمي لجيل أدبي ترك أثراً وارتبط بظواهر اجتماعية معينة.
4- ليس كل نتاج أدبي صالحاً للنقد الاجتماعي إذ لا بد من أن يكون له تأثير اجتماعي في الناس به تتوكد أطراف علم اجتماع الأدب أي الأديب ونتاجه الأدبي والجمهور القارئ.
وإذا كانت الدراسة الاجتماعية للأدب مستجدة بالقياس إلى النقد الاجتماعي، فإنها مع ذلك أقوى منه فاعلية من خلال هذا الاهتمام المتزايد بالدراسات الثقافية من لدن الباحثين وفي مختلف أصقاع العالم. وعلى الرغم من مضي زمن ليس بالقصير على الدراسات الثقافية التي فيها يتداخل النقد الأدبي بعلم اجتماع الأدب، فإن بعض الباحثين الاجتماعيين ومعهم بعض النقاد ما يزالون يتصورون أن المنهج الاجتماعي هو نفسه علم اجتماع الأدب. وليس أدل على هذا الأمر من مرجعياتهم التي تقف عند حدود علماء الاجتماع كماركس وفيبر وغيرهما ممن عنوا بالوجود وظواهره الكونية، متصورين أن هؤلاء هم أنفسهم منظرو (علم اجتماع الأدب) وليس خافياً ما للمرجعيات من أهمية في الدراسات الثقافية إذ بها يوطد الباحث الاجتماعي تحليلاته النقدية ويقوي مقارباته. وليس حال الباحث الاجتماعي المتأخر عن ملاحقة ركب الدراسات الاجتماعية إلا كحال الناقد المتحجر المنهجية.