أ.د.عبد الله بن سليم الرشيد
لستُ نحويًّا، وإن أحببتُ مذاكرة النحو، ولست صرفيًّا، وإن لم أنصرف عن الالتذاذ (بالصرف)، غير أني أسوق هنا رأيًا أتطلّع إلى أن (يقيّمه) النحاة الفضلاء، ويقوّموا عوجَه.
كنت ارتضيت جعْل العنوان (صيغٌ للتصغير مجهولة)، ثم أكبرت النحاةَ من أن يوسَموا بالجهل، فجعلته (منسيّة)، فلم أرضَه أيضًا؛ فوَصْفهم بالنسيان اتهام، وإن نسي واحد، فكيف ينسى الباقون؟ وإن تناسى رهْط منهم، فهل ينسى الجميع؟ أما التَّرْكُ الذي ارتضيته، ففعلٌ متعمَّد، والمتعمِّد قاصدٌ، ذو غرض، قد يكون خفي عني، ولم تستوعبه معرفتي.
والآن: هل ما دوّنه النحويون عن صيغِ التصغير وافٍ بصيغه المسموعة؟ لقد جعلوها ثلاثة أمثلة: (فُعَيْلٌ، وفُعيعِلٌ، وفُعيعيلٌ)، ورأى السيرافيُّ إضافةَ مثالٍ رابع، هو (أُفَيعال)، مثل (أُجَيمال) تصغير (أجمال)، ويطّردُ فيما كان بزنةِ أفعال جمعًا.
غيرَ أن استعراضَ ما نقله بعضُ أهلِ اللغة في المعاجم وغيرِها، يقفنا على صيغة رابعة، هي (فِعَيْل) بكسر الفاء وفتح العين. وهي -وإن عُدّتْ فرعًا من أول الثلاثة المذكورة- حريّةٌ بالإفراد؛ لخروجها عن المعهودِ في التصغير، وهو ضمُّ أوله.
فمن ذلك ما نُقل من أن تصغيرَ بيتٍ بُيَيتٌ وبِيَيْتٌ، قيل: وكذلك الشأنُ في شيخٍ وعَيرٍ وأشباههما. وقيل أيضًا: إن اسمَ أبي القطاميّ الشاعرِ هو شِيَيم.
ويُلحظ أن هذه الصيغة واردةٌ في تصغير الاسم الثلاثي الذي يكون بزنة (فَعْل) أو (فِعْل)، وثانيه ياء. وما تزال شائعة حتى يوم الناس هذا، في عدة بقاع من جزيرة العرب.
ولكثرة ما وقفت به من شواهد، هل يمكن القول: إن تصغير (سَيف، وقَيد، وسَيل، وزَيد، وبَيض، وغَيل، وجَيش، وعِيد، وسِيْد) يجوزُ أن يكون على (سِيَيف، وقِيَيد، وسِيَيل، وزِيَيد، وبِيَيض، وغِيَيل وجِيَيش، وعِيَيْد، وسِيَيد). وهل يمكنُ وضعُ قاعدةٍ جديدةٍ، هي أنه يطّردُ تصغيرُ اللفظ على (فِعَيلٍ) إن كان ثلاثيًّا بزنةِ فَعْل أو فِعْل، وثانيه ياء؟
والصيغة الثانية هي (فُعْلُول)، ومن المنقول أن بعضَ العربِ يعمدُ إلى هذه الصيغة إن صغّر أو قلّل أو حقّر، روى ابنُ جِني أن أعرابيًّا سُئِلَ عن تحقير (أي تصغير) الحُبارى، فقال: حُبْرُور، قال ابن جنّي: «وهذا جوابُ من قصد الغرضَ، ولم يحفِلْ باللفظ»، أراد أنه لم يُعنَ بأن يجيءَ به على صيغة التصغير المعروفة.
ولكن ألا يحتمل الأمر أن الأعرابيَّ قصد أن يبنيَ دلالة التصغير على ما لهَج به لسانه، وضَرِيتْ به سليقتُه. وليس الأمرُ أنه قصد الغرضَ، ولم يعرف الصياغةَ الصحيحة؟
إن القول باطّراد هذه الصيغة للتحقير والتصغير تشهدُ له ألفاظٌ جاءت على هذه الصيغةِ، قُصِد بها وصفُ الصغير والحقير والليّن الضعيف، مثل (الحُدْروج) لصغير الإبل و(الجُرموز) للحوضِ الصغير، و(النُّخْروب) وهو الثقب الذي يُهَيّأ للنحل، و(الضُّغبوسُ) وهو شبْه صغار القِثّاء يُؤكلُ، و(البُرْعوم) لكُمِّ الثمر، و(الجُذمور) وهو قطعةٌ من الشجر تبقى بعد القطع، ويُلحظ أن في بقيّة الشيء معنى الصِّغَر والقلّة، ومثله (الغُضْروف) وهو الليِّنُ من العظْم، و(الدُّعْبُوب) للضعيف، و(الجُغْبوبُ والحُتـْروش) وكلاهما للقصير، و(الرُّعبُوب) للضعيف الجبان، و(العُمْشوش) لما يبقى في العنقود، و(الطُّرطور) للوغْد الضعيف، ومنه قولهم (شُعْرور) في تحقير من يدّعي الشعرَ، وليس من أهله. وفي المعاجم شواهد أخرى غزيرة.
ويشهدُ لذلك أيضًا أنهم سمّوا بهذه الصيغةِ خَلقًا صغارًا مثل (العُصفور)، و(البُرغوث)، و(الحُرقوص)، و(البُلقوط)، وهما بمعنى القصير، و(البُعْقوطة) وهي دُحروجة الجُعَل، و(العُذْفوط)، لدويبّة.
أسوق ذلك مع إدراكي فرق ما بين (شعرور) و(عصفور) مثلًا، إذ (شعرور) محقّر (شاعر)، وليس للفظ (عصفور) اسم مكبّر.
والمهم أيجوز أن نقول مثلًا في تصغير (كاتب وناقد وسارق): (كُتْبوب ونُقْدود وسُرْقوق)؟ وهل نطرُدُ القاعدة على هذا المنوال؟
ويُلحق بما يتضمن دلالة التحقير صيغة (فَعُّول)، ومنها (فَرّوج) لفرخِ الدجاج، و(دَبّوس).
وربما كان من بقايا هذه الدلالة تدليلُ الناس اليوم من اسمُه عبدالكريم أو عبدالله أو عبدالعزيز أو سليمان بقولهم (كَرّوم، وعَبّود وعَزّوز وسَلّوم). وهذا شائعٌ مستفيضٌ، والتسمية بعبّودٍ قديمةٌ قِدَم المثل: «أنومُ من عَبّودٍ». والتدليل يمتُّ بسببٍ إلى التصغير، وليس هو إياه.
وقديمًا شاع في الأندلسِ والمغرب التسميةُ على هذا الوزن (فَعّول)، مثل قولهم (حَمّود) لمحمد، ومثله وزن (فَعلون) فقد قصدوا به التصغيرَ في رأي إبراهيم السامرائي، مثل (زَيدون، وخَلدون، وحَمدون، ووَهبون، وفَرْحون) وبهذه الصيغة سُمّي أحد الهاشميين (حَمدونَ) واسمُه محمد بن أحمد. والأغلبُ إرادةُ التمليح، وهو يمتّ للتصغير بسبب أيضًا. وهذه الطريقة مستمرّة إلى اليوم، في بعض الجهات، كالعراق، فهم يسمّون الدرب (دَر ْبون)، والبِسّ أي الهرّ (بسّون)، وحسَن (حسّون)، وما يزال بعض أهل الخليج يقولون للصغير (صغيّرون)، فيجمعون طريقتي تصغير.
وأكُرّ بالقول: إن هذه الصيَغ ليستْ ممحوضةً لدلالة القِلّة والصغَر، فلها دلالاتٌ أُخَر تُطيف بالتصغير والتحقير، وتتصل منهما بسبب وثيق، كالتمليح والتدليل ونحوهما.
وسواءٌ أقَبِل النحويون كلامي أم هجّنوه وبَهْرجوه، فليعدّوني (بُحثوثًا) نحويًّا، وليفيدوني بما يقوّم عوج رأيي.