ا. عبدالعزيز القاضي
قال الشاعر عبدالمحسن الصالح [على المسحوب]:
يَا لَيْتِ بِوْجُوهُ النِّشَامَى دَلَايِلْ
حَتَّى نَعَرْفَ الحُرِّ مِنْ فَرْخَ الأَكْرَاكْ
والشاعر عبدالمحسن بن ناصر الصالح -رحمه الله- من شُعَراءِ عُنَيْزَة، وُلِدَ فيها سنةَ 1322هـ وعاش فيها بعد انتقالِ والدِهِ من المجمعة إليها. وتوفي عام 1414هـ وهو شقيقُ مُرَبِّي الأجيال ورائدِ التَّعْلِيمِ النِّظَامِي في عنيزة الأستاذ صالح بن ناصر الصالح رحمه الله (ت 1400هـ) وتَوْأَمُه، وأخو الأديبِ المُرَبِّي الشيخ عثمان الصالح -رحمه الله- (ت 1427هـ) من الأب. وفي عام 1348هـ شارك مع أخيه الأستاذ صالح في إنشاءِ أولِ مَدْرَسَةٍ أهليَّةٍ تسير على مَنْهَج ِالنِّظَامِ التعليمي الحديث، وفي عام 1356هـ تم تحويلُ هذه المدرسة إلى مدرسةٍ حكوميَّةٍ تحت اسمِ المدرسة العزيزية، وبقي معلمًا فيها حتى عام 1380هـ حيث انتقل للعَمَلِ في إدارة التعليم حتى تقاعده عام 1392هـ، ثم انتقل إلى الرياض مع أخيه صالح وبقي فيها إلى وفاته.
والأستاذ عبدالمحسن الصالح شاعِرٌ موهوب، وبفَضْلِ الله ثم بفَضْلِهِ وفَضْلِ أَخِيهِ الأستاذ صالح تَحَوَّلَتْ المدرسةُ العزِيزِيَّةُ إلى صَرْحٍ تربويٍّ وثَقَافِيٍّ بارزٍ لا في عُنيزةَ وحدها بل في عُمومِ بلدانِ نَجْد، فقد أَنْشَآ فيها نادِيًا أَدَبِيًّا مَسَائِيًّا تُنظَّمُ فيه الحَفَلاتُ التي تُقامُ فيها المَسْرَحِيَّاتُ والأُمْسِيَاتُ الأَدَبِيَّةُ والاجتماعِيَّةُ الفُكَاهِيَّة. وقد حَضَرَ المَلِكُ عبدُالعزيزِ -رحمه الله- ثلاثًا من تلك الحَفَلاتِ في زياراتِهِ إلى عُنَيزَةَ في السنوات 1350هـ و1353هـ و1355هـ وأُعْجِبَ بها. كما شَهِدَ الملكُ سُعُودٌ -رحمه الله- عندما كان ولِيًّا للعهد، بَعْضًا من نَشَاطاتِ هذا النادي الثقافي خلال زيارته إلى عُنيزة سنة 1360هـ.
ولعبدالمحسن الصالح ديوانُ شِعْرٍ مَنْشُورٌ هو (ديوان عبدالمحسن الصالح)، صدرتْ طبعتُه الأولى عام 1401هـ وكتب له معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر -رحمه الله- (ت 1435هـ) مُقَدِّمَةً ضافيةً اشْتَمَلَتْ على دِرَاسَةٍ أَدَبِيَّةٍ عن شِعْرِه. كما كتب عنه الأديبُ الأستاذ إبراهيم المحمد السبيّل مقالةً بعنوان (الأستاذ عبدالمحسن بن صالح: شاعِرٌ ومُعَلِّم) نُشِرَتْ في المجلة العربية في شوال 1414هـ. وله ترجمةٌ في كتاب (صالح بن ناصر الصالح: سيرة وريادة) تأليف الأستاذ خالد بن سليمان الخويطر.
كُتِبَتْ قصائدُ الديوانِ في الفَتْرَةِ المُمْتَدَّةِ بينَ أوائِلِ الخَمْسِينِيَّاتِ الهجرية إلى بداية الثَّمانِينيّاتِ، وهي الفترةُ التي قضاها معلِّمًا في المدرسةِ العزيزيَّة. وجاءت في أربعة أبواب: اجتماعية، ومدرسية، ووطنية، وإخوانية.
ويتَّسِمُ شِعْرُهُ بالفكاهةِ الهادفَةِ المُمْتِعَة، والسُّهُولَةِ المُمْتَنِعَة، التي تمزِجُ الجِدَّ بالهَزَل، وظهرَتْ من خلالِه شَخْصِيَّتُهُ المَرِحَة، وثقافتُهُ الاجتماعِيَّةُ والتَّرْبَوِيَّةُ بصُورةٍ لافِتَة. ولا عَجَبَ في ذلك فقدْ كان يُشَكِّلُ مع أَخِيهِ فَرِيقًا تَرْبَوِيًّا مُؤَهَّلاً تَأْهِيلًا علميًّا وتربوِيًّا جَيِّدًا. وكانت قَصَائِدُهُ المَدْرَسِيَّةُ السَّاخِرَةُ تُلْقَى في حَفَلاتِ المَدْرَسَةِ وفي النادي الأدبِيِّ التَّابِعِ لها، وصارتْ تُمَثِّلُ عامِلَ جَذْبٍ للجُمْهُورِ لطَرَافَتِهَا وحَلاوَتِها، ولما فيها من تَوْجِيهٍ تَرْفيهيٍّ مُحَبَّب، يُعْرَضُ بأسلوبٍ جَذَّابٍ يُشْبِهُ المُونُولُوج السَّاخِر. ومِنْ أَشْهَرِ قَصَائِدِهِ الطَّرِيفَةِ اللَّطِيفَةِ قصيدةُ (الدِّيك) وقصيدةُ (الفلاح) وقصيدةُ (التلميذ المشهور) وغيرُها، يقول في إحدى قَصَائِدِ المَرِحَة [على الرجد (البحر المتدارك]:
وبِالأَصَالَهْ عَنْ كِلِّي
أَرَحِّبْ فِيكُمْ وَأهَلِّي
إلا إلى صِرْتَ أَصَلِّي
فالحَكِي شَيْنٍ بَالمَسْيَدْ
و(المَسْيَد) هو المسجد بلهجتهِم، ويقول:
ما يِفْقَدْ غَيْرَ الرَّجَّالِي
اللِّي يَطْمَحْ لَلْمَعالِي
مِنْ حِرْصُهْ على الكِمَالِي
حَارَبْ لَذَّاتُهْ والمَرْقَدْ
هذِي هِمَّاتْ الحَرَار
مِنْ طَبْعَهْ تِصِيرْ اِكْبَارْ
البَرَّادِي على النَّارْ
أَبَرْجَعْ لَمُّهْ لا يَبْرِدْ
و(البرّادي): إبريقُ الشّاي. و(لَمُّهْ): إليه. وهذا الخروج المفاجئ الطريفُ من الجدّ إلى الهزل في البيت الأخير، من أبرز ما يتميَّزُ به أسلوبُه السَّاخِر، ورُبَّما لو عاش في بلَدٍ مثلِ مِصْرَ لكان له شأنٌ كبير في الكوميديا. ويقول: [على الرجد. البحر المتدارك]:
أنا التِّلْمِيذَ المَشْهُورْ
اللِّي شَكْلُهْ ما يِدُورْ
بَرْكَةْ عِلْمْ وحَبْرِ حْبُورْ
شِفْنِي مِنْ ثِقْلَ العِلْمَ أَضْلَعْ
ومعنى (أضلع): أَعْرُج (فصيحة). وبيتُ المَوْضُوعِ الذي صدّرنا به هذا الحديثَ، وهو:
يَا لَيْتِ بِوْجُوهُ النِّشَامَى دَلَايِلْ
حَتَّى نَعَرْفَ الحُرِّ مِنْ فَرْخَ الأَكْرَاكْ
من قصيدةٍ قالَها في مَدْحِ صديقِهِ عبدالمحسن الذكير، في مناسبةٍ خاصةٍ جَرَتْ عام 1377هـ. و(الأكراك): جمع كُرْكِي، طائرٌ طويلُ السَّاقَيْنِ والعُنُق، ويُعرَفُ في نَجْدٍ باسم (الرَّهَوْ)، وهو من الطُّيُورِ الضَّعِيفَة. وللشَّاعِرِ أبياتٌ في نَفْسِ المَعْنَى، يقول فيها [على مجزوء البحر الممتد]:
لَيْتَ الأخْيَار بِوْجِيهَهْ وُسُومْ
تَفْرِقَ البُّومِ مِنْ فَرْخَ الحَرَارْ
الصُّوَرْ والزَّخَارِفْ والجِسُومْ
بَهْ تِسَاوَى الأصايِلْ والجَهَامْ
و(فَرْخ الحَرَار): أفراخُ الصُّقُور، والحَرَار جمع حُرّ، وهو أقوى أنواع الصُّقُور. و(الأصايل): الخيلُ الأصيلة. و(الجَهَام): السَّحَابُ الخَفِيف الذي لا يُمْطِر. وتَمَنِّي وُجُودِ عَلامَةٍ فارقةٍ في أَوْجُهِ النَّاسِ تَدُلُّ على صِفَاتِهِمْ وأَخْلَاقِهِمْ، أُمْنِيَّةٌ يُرَدِّدُهَا الشُّعَرَاءُ وغَيْرُهُمْ كُلَّمَا خَابَتْ ظُنُونُهُمْ ببَعْضِ النَّاس، أو ظَهَرَتْ نَتَائِجُ اغْتِرَارِهِمْ بِمَظَاهِرِهِمْ. فهو مَعْنًى مَطْرُوقٌ، وَرَدَ في عَدَدٍ من القصائدِ القديمةِ والحديثةِ. وهو مَأْخُوذٌ من المَثَلِ العامّيِّ: (ما عَلَى الطَيِّبْ وَسِمْ). ولا عَجَبَ من تَكْرَارِهِ في كل زمان ومكان، فالناس يُحِبُّونَ تَكْرَارَ (المعاني الإنسانيَّةِ) التي تُسْعِفُهُمْ في التَّعْبِيرِ عن حالاتِهِمُ النَّفْسِيَّة، وخصُوصًا ما يَتَعَلَّقُ منها بخَيْبِةِ الأمَلِ والظَّنِّ التي تَمُرُّ بِهِم. فهم يُرَدِّدُونَها تَعْزِيَةً لأنفُسِهِم، والْتِمَاسًا للعُذْرِ على انْخِدَاعِهِم بهم. فهذا شَاعِرُ سُدَيْر الكبير إبراهيم المزيد -رحمه الله- يقولُ في مَطْلَعِ قَصِيدِةٍ جَمِيلَةٍ خفيفة [على البحر الصّخَري]:
ألا يا لَيْتِ رَبِّي يَوْمِ سَوَّى
عَبِيدِهْ حَطِّ لَلطَّيِّبْ عَلَامَهْ
عَلَشَانَ الِّذِي بَالنَّاسِ جَاهِلْ
يَعَرْفَ الحُرِّ مِنْ بَرْقَ الجَهَامَهْ
وقال الشاعر مرزوق الثبيتي وهو من المتأخرين [على بحر الرَّمَل]:
لَيتِ لَلطَّيِّبْ على وَجْهِهْ عَلامَهْ
تَفْرِقِهْ دَايِمْ عَنِ وْجِيهَ المِثَبَّرْ
و(برق الجهامه) هو البَرْقُ الخُلَّبُ الذي لا مَطَرَ فيه. والجَهَامَة واحدة الجَهَام، وهي السَّحَابَةُ كما ذكرنا. و(المِثَبَّرْ): الضُّعَفَاءُ الخَائِبُونَ الرَّدِيئُون، جَمْعُ (مَثْبُور). وأَسَاسُ المعنى ما ورد في المثل، وهو نَفْيُ وُجُودِ عَلامَةٍ تدلُّ على الطَّيِّبِ من الناس، ونَفْيُ علامَةِ (الطِّيبِ) تَسْتَلْزِمُ - مَنْطِقِيًّا - نَفْيَ علامَةِ (الرَّداءَة). وعندما يَتَمَنَّى الشَّاعِرُ أن يَكُونَ (للطيّب) علامَةٌ أو سِمَةٌ فإن هذا يدُلُّ - نَفْسِيًّا - على خيبةِ أَمَلِهِ وتَقَبُّلِهِ ما جرى عليه من خِدَاع، فهو يُعَبِّرُ عن تَمَنِّيهِ وجودَ العلامةِ أو السِّمَةِ، بِسَعَةِ صَدْرٍ حقيقيَّةٍ أو مُفتعَلة، بسُخْطٍ أو برضا، ويُفْصِحُ عن دِرَايَةٍ عَرِيضَةٍ بأَحْوَالِ النَّاسِ وطِباعِهمْ وإنِ انخَدَع بهم، والحَذرُ لا يمنعُ القَدَر. أما عندما يَتَمَنَّى أن يرى عَلامَةً تَدُلُّ على (الرَّدِيء)، فالغَالِبُ أنَّهُ مَتَفَاجِئٌ غَاضِبٌ مما جَرَى عليه من خَيْبَةِ الظَّنِّ بمَنْ كان قد أَحْسَنَهُ فيه. كما يَدُلُّ على أَنَّهُ يَمْقُتُ اللِّئَامَ مَقْتًا شَدِيدًا. قال الشاعر الإعلامي محمد بن شلاح المطيري -رحمه الله- (ت 1426هـ) [على المسحوب]:
يا لَيْتِ فِيهْ اُوْسُومِ تِعْرَفْ لَلَأنْذَالْ
حِتَّى نَعَرْفَ النَّذْلِ ونْكُبِّ جَالِهْ
ومعنى (نُكُبّ جاله) أي نتركُه، ونبتعدُ عنه. وقال راجح العجمي [على البحر الهلالي]:
وأنا اقُولِ لَوْ إنْ في وِجِيهِ الرُّخُومُ وْسُومْ
عَرَفْنَا نِمَيِّزْ قِيمَةَ النَّذْلِ بِوْسُومَهْ
والرّخُوم جمع (ارْخَمَة) وهي طائِرٌ ضَعِيٌف حقيرٌ من فئة النُّسُور. ويشبَّهُ به الضعيفُ التَّافِهُ من الرِّجال، كما أن القويَّ الكريمَ يُشَبَّهُ بالصَّقْرِ الحُرّ كما مَرّ، وكما قال المتنبّي [على البسيط]:
وشَرُّ ما قَنَصَتْهُ رَاحَتِي قَنَصٌ
شُهْبُ البُزَاةِ سَوَاءٌ فيهِ والرَّخَمُ
وقال الشّاعر [على الهلالي]:
يا لَيْتِ بِهْ وَسْمٍ على أهْلَ الرِّدَى يِنْشَافْ
عَلَشَانِ نَحْذَرْهَا لِيَا عَابِ عَايِبْهَا
وقال الشاعر صالح آل مانعه [على ممدود بحر الرَّجَز]:
لَيْتَ الرِّدِي مِنْ خِلْقِتِهْ يِكْتَبْ على وَجْهِهْ دِلِيلْ
وإلا يعَلَّقْ في جِبِينَهْ لَلْأوَادِمْ لَايْحِهْ
وكل من ذكرنا مُتَّفِقُونَ على عدمِ وجودِ علامةٍ أو سِمَةٍ تدلُّ على طِيبِ الرِّجَالِ وسوئهم، غَيْرَ أن شَاعِرَ سدير الكَبِيرِ إبراهيم بن جعيثن -رحمه الله- (ت 1363هـ) له رأيٌ مُخْتَلِف، حيث يقول [على الصّخري]:
ولَقَيتَ المَرْجِلَهْ جِدٍّ وهِمِّهْ
وبِوْجِيهَ الرِّجَالْ اِلْهَا وُسُومِي
فهو يرى آثارَ (المَرْجِلِة) في الجِدِّ والهِمّة، ويَعْرِفُها في أَوْجِهِ النَّاس. فهل هذا مُنَاقِضٌ لما اتُّفق عليه في معنى المَثَل (ما على الطَيِّبْ وَسِم)؟ هذا ما يبدو في الظاهر، لكن الحقَّ أنه لا تَنَاقُضَ بين المَعْنَيَيْنِ، فـ(المَرْجِلَة) أَعَمُّ من (الطِّيب)، وهو مَظْهَرٌ من مظاهرها، وكل من اتّصفَ بـ(المرجلة) فهو (طيّب) ولا عكس. والمقصودُ بـ(المرجلة): كُلُّ الصِّفاتِ الحسنة، من الالتزامِ بأَدَاءِ الواجباتِ والحقُوق، والكرم، والإحسان، وإغاثة الملهوف، والمُبادرةِ بفعل ما يجب المبادرَةُ بفعله... إلخ، وهي صِفَاتٌ لا تَخْفَى في شَخْصِيَّةِ الإِنْسَانِ، ولا تظهَرُ فجأةً بل تبدو في المَوَاقِفِ المُخْتَلِفَة، ولذلك فإن من يَتَّصِفُ بها مَأْمُونُ الجَانِب، لا يُخْشَى منه خداع ولا غَدْرٌ ولا غِشّ، وإنما يُخْشَى من المَجْهُولِ الذي لم يَظْهَرْ منه ما يُنبِئُ عن أخلاقِهِ الحقيقيَّة. والناسُ في الرخَاءِ كُلُّهُمْ طَيِّبُون.