العقيد م. محمد بن فراج الشهري
اعتاد العالم كله على تلقي النصائح والتوجيهات من أمريكا، في القضايا التي تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، باعتبارها الدولة الرائدة في العالم في هذين المجالين، بل إن كثيراً من الأمريكيين يحلو لهم وصف بلادهم بـ(مهد الحريات والديمقراطية والحقوق الإنسانية)، وهو وصف يصح بشكل نسبي، وفي بعض المواقف فقط، لكن لا يمكن أن ينسحب على أمريكا بشكل عام، والدليل ما تبوح به وقائع التاريخ القريب التي يعرفها الأمريكان أكثر من غيرهم. فتاريخ هذه الأمة بني على مآس إنسانية يشيب لها الولدان، بداية من الاستيلاء على أراضي الهنود الحمر بالقوة، ثم دحرهم بدلاً من شكرهم أو حتى التعايش السلمي معهم ثم بعد أن انتهوا منهم تحولوا إلى أفريقيا، للبحث عن عبيد يصلحون لهم أراضيهم ويمهدون سبل الحياة المرفهة لهم، وهي فترة من التاريخ لا يكاد يوجد أحد في العالم لا يعرفها، ويعرف ما حدث فيها من ظلم، وهو النموذج الذي يمكن لأي ظالم أن يستمده منه.
وفي محاولتها تبرير حملتها الصليبية على العالم الإسلامي، لجأت أمريكا وطوال سنوات عديدة إلى استخدام مبررات مختلفة، مرة بدعوى محاربة المد الشيوعي وأخرى بدعوى الحرص على تطبيق الديمقراطية والحفاظ على حقوق الإنسان، وأخيراً جاء الشعار الجديد وهو محاربة التطرف الإسلامي أو الأصولية الإسلامية التي وجدت، أفضل تعبير لها فيما تسميه أمريكا الآن بالحرب على الإرهاب. والمدقق في التاريخ الأمريكي يجد أن مثل هذه المبررات والدعاوى ليس الأولى من نوعها، بل تكررت على مدار التاريخ الأمريكي لتبرير النهب والسلب، وحق التدخل لفرض سيطرتها على العالم، على اعتبار أن ما تقوم به ما هو إلا تنفيذ لمشيئة إلهية لتنوير العالم، والأخذ بيده إلى التقدم والحرية.
يقول (جون آدمز) أحد الرؤساء الآباء المؤسسين: «إن الله ما أوجد أمريكا إلا لتنفيذ مشيئته المتمثلة في القيام بعبء تنوير وقيادة الشعوب الرازحة تحت نير الجهل والتخلف والعبودية والأخذ بأيديها صوب التنوير والتقدم والحرية». ونفس المعنى كرره (هرمان ملفيل) بقوله: «إننا نحمل على كواهلنا حريات العالم».
وبناء على هذا الإيمان تصرفت أمريكا مع العالم، فعلى الصعيد الداخلي تم إبادة الهنود الحمر بدعوى أنهم متوحشون وغير حضاريين، وتم استعباد السود، بتلك الدعوة العنصرية، التي تزعم تفوق الجنس الأبيض. وعلى الصعيد الخارجي، تم نهب ثروات أمريكا اللاتينية ومحاربة دولها باسم الدفاع عن النفس مرة، وباسم الحرية مرة أخرى، مما دفع (سيمون بوليفار) أحد أبطال تحرير أمريكا اللاتينية في منتصف القرن التاسع عشر إلى القول: «يبدو أن الولايات تسعى لتعذيب وتقييد القارة باسم الحرية»، هذا ناهيك عما يسميان بالحرب العالمية الأولى والثانية، والحرب الكورية، وحرب فيتنام، والحرب على أفغانستان والعراق... إلخ القائمة الطويلة.
نعم، هذا هو واقع الحال قديماً وحديثاً منذ أن استعمر الأنجلوسكسون أمريكا، وأبادوا سكانها الأصليين، ومروراً بالحروب المختلفة التي خاضتها أمريكا خلال القرنين الماضيين، وانتهاءً بحربها الصليبية على العالم الإسلامي، حيث نجحت أمريكيا في السابق، في تضليل العالم ببعض الشعارات البراقة وتمكنت من نهب ثرواته، وسلب إرادته تحت شعار الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا أنها وفي الآونة الأخيرة بدأت تفقد مصداقيتها، وبدأت تُكتشف أهدافها الحقيقية الخبيثة تجاه الإنسانية. ففي الأزمات تسقط دائماً أوراق التوت وتظهر الأمور على حقيقتها دون زيف، ويبدأ التاريخ يظهر من جديد ليشكل مرآة تعكس حقيقة أمة، يؤكدها الحاضر، وتعززها الممارسات. فمنذ عقود طويلة والعالم ينظر للولايات المتحدة الأمريكية على أنها دولة الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، ولكن الوجه الحقيقي للولايات المتحدة، بدأ يظهر في الأزمات ليذكر العالم بتاريخ الأمة الأمريكية، وتاريخ الدولة الأمريكية التي أنشئت أساساً على جثث السكان الأصليين للقارة، وبنت اقتصادها على حساب الشعوب المستضعفة.