د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
يشكِّل التواصل الحضاري ارتباطاً وثيقاً بالإنسانية بمفهومها الواسع ويحقق المكتسبات التي تعود بالمنفعة المشتركة على جميع الناس وتهدف إلى تمكين الأفراد من صياغة المستقبل الذي يتصورونه ويرغبون فيه، كما يحقق التواصل الحضاري بناء المجتمعات الراقية، ويعُّدُ أهم الركائز التي تهتم بها الشعوب والحكومات. ومن خلال التواصل الحضاري يتم تنظيم العلاقات الإنسانية فيما بين أفراد المجتمع وبين المجتمعات الأكبر والدول من خلال ترسيخ حزمة من الطرائق والأساليب الممنهجة للتفاهم تستهدف الحفاظ على شبكة العلاقات الإنسانية وتحقيق السِّلم الاجتماعي والتعايش السلمي، حيث يُعزِّز التواصل الحضاري نسيج العلاقات بين أفراد المجتمع وينشر الطمأنينة بين مختلف الأطياف، كما يعزِّز التواصل الحضاري روح التسامح بين الأفراد ومن ثم المجتمعات ويقلِّص المسافات بين التيارات الفكرية من خلال تقريب وجهات النظر وفي أدنى المكتسبات يحقق التواصل الحضاري تفهم مختلف الاتجاهات. كما يمنح التواصل الحضاري الأجيال القدرة على إدارة أنواع مختلفة من التحديات ويؤثّر التواصل الحضاري إيجابياً على القدرات الفكرية، حيث تتزايد ولا تصاب بالركود لانغلاقها، فالتواصل مفتتح نحو الأواصر والتفاعلات المتعددة؛ ويعتبر الإعلام والاتصال الفعَّال الذي يتشكَّل من نسيج الوطن وحراكه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في منظومة تفاعلية هو المنصة العليا التي تنطلق منها الصورة البصرية ومن ثم الصورة الذهنية الفاخرة عن المجتمع.
كما يتصدر التواصل الحضاري الذي تحتضن بلادنا الغالية أحد مصانعه ومنصاته الجديرة (مركز الملك عبدالعزيز للتواصل الحضاري)، تلك العناصر، حيث يحمل الكثير من الامتلاءات المعبرة عن بلادنا بكل تفاصيلها؛ فهناك برنامج رسل السلام وحوار الأديان وبرامج الشباب في اثنينية التواصل الحضاري والندوات واللقاءات الفكرية وبلورت المفاهيم من خلال الورش النابضة!
أما نقل الصورة الحقيقية عن المجتمع السعودي للعالم فيقوم على أربع قواعد ومتكآت من القيم الدينية والأخلاقية والمكتسبات الجمالية الفنية والثقافة المعرفية؛ بمعنى أن الثقافة والمعرفة من ممكنات الوصول للآخر.
ولقد أسهمت الرؤية الوطنية العملاقة 2030 وما تشكّلت منه (وطن طموح واقتصاد مزدهر ومجتمع حيوي) في نقل محمولات ثمينة من تشكيلات الوطن المزدهر على مراكب ثمينة فتبلورت الصورة الحقيقية للمجتمع السعودي من خلال صناعة الإنسان الذي يتمثَّل في منهجه القيم الفكرية العليا وتعزيز مفهوم الإتقان والانضباط والعدالة؛ ونؤكد كثيراً ووفيراً أن الفنون والآداب في عمومها جزء أصيل من المشروع النهضوي لتأصيل القيم وتعزيز الهوية! فالديباجة الفنية بأشكالها هي جسر التواصل الحضاري والاتصال بين الشعوب والأجمل أنها تصبُّ في عالم الانتماءات الصادقة للأوطان وتأصيل مفهوم الهوية حينما تعرض تلك الفنون بأشكالها النماذج الوطنية وعندما تبسط المشاهد الفنية والصور عن البطولات والعقول الباذخة، فالفنون تقطن القمم منذ الأزل؛ وهي جذوة متقدة تسهم في مد الجسور وتحقيق المثاقفة، فالتواشج الوجداني هو أعمق أساليب التواصل وعندما أشرعنا منصاتنا للفنون الأدائية والآداب الرصينة زخرت عقولنا بينابيع فوارة من الثقافة التي تحمل مآثر الآخر وحصاد العقول المتصلة ببلادنا والتي كان للتواصل الحضاري دور حقيقي في جذب الآخر ومد جسور التلاقي مع الآخر في صور مختلفة عبر الفنون والآداب مما أصل للهويات وفتح مسارات جديدة لترقية الواقع المجتمعي الإنساني، فليس دور الفنون الانخراط في مزايدات اجتماعية أو فكرية وليس دورها تقديم حلول للمشاكل المستعصية!
ودائماً ما تبرز الحاجة للتواصل الحضاري كمنصة تواصل حضارية خاصة مع وتيرة التحولات فنحتاج إلى تأطير التواصل الحضاري ليكون ضمن الداعمين للتحولات العالمية باعتباره منهجاً عالمياً للتعرّف على الآخر والاعتراف بالآخر «الإنسان» ومن ثم إتاحة الفرصة للمشاركة في صناعة القرار الإستراتيجي الذي يحمي التحولات من التعثر، حيث يحقق للآخرين التفكير المستقل؛ ويسهم التواصل الحضاري في ازدهار المجتمعات ويعزِّز السلام داخل المجتمعات ويرفع سقف المشتركات بين الشعوب، ونحتاج إلى التواصل الحضاري أكثر من أي وقت مضى للتواصل بفعالية مع العالم وتقدير ودعم التنوع وتمدين الحضارات وتحقيق التكامل وتيسير الفضاءات المشتركة وصناعة الذاكرة الجماعية، وفي ظل الثورة التقنية الحديثة يحقق التواصل الحضاري مستوى متوازناً يشجع الأفراد والمجتمعات على الانخراط في التطور والتنمية، فالأداء دائماً ما يكون مثالياً إذا كان مستوى العواطف معتدلاً والدقة حاضرة في كل المجالات.
وختاماً فإن التواصل الحضاري يُعزِّز التعاون والترابط على مختلف الأصعدة العالمية والوطنية المحلية، فيصبح الأفراد والجماعات منفتحين على رؤية أنفسهم في أدوار ربما كانت في السابق أقل وضوحاً وأكثر عزلةً، وعند ذلك يتم الاندماج بين المساحات المادية والهوية الوطنية، وهي مجمل القيم والتقاليد التي تطورت من المنبع وتحولت لتعبر عن روح العصر وتقنياته وأنماط الحياة التي تلائمه، وهي هوية مستمرة لكنها متغيِّرة ولها منتجاتها المتعددة مع مرور الزمن؛ ولذلك كان التواصل الحضاري من أهم المرتكزات للنواة الإبداعية للهوية؛ كون النواة تتكون من عدة مستويات من المبادئ والمظاهر التي تندرج من الثابت إلى المبادئ المؤسسة لهويتنا التي استطاعت أن تخلق مظاهر بصرية متجددة عبر الزمن.
ونعلم أن الهوية ترتكز على منظومة مبادئ قادرة على البقاء والاستمرار وهذه المبادئ تتطلب مجتمعاً يعيها ويستعيدها في صورها المعاصرة والمستقبلية ولن يكون ذلك إلا بالاتصال والتواصل الحضاري حتى الثقافة واللغة والعلوم لا يمكن فصلها عن الهوية! ولا بد من التواصل الحضاري للوصول المتمكِّن!