اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
من الطبيعي أن الانسان العاقل يحاول دائماً أن يكون متحدثاً بارعاً، وأن يحسن اختيار ما يريده من الكلام، جامعاً بين حضور الذهن وحسن المنطق على النحو الذي يمكنه من ترتيب أفكاره وإيصال فكرته إلى المستمع إليه، وقد ورد في الحديث: جمال الرجل فصاحته، وقال علي بن أبي طالب: تكلموا تعرفوا فإن المرء مخبوء تحت لسانه، وقال الخليل بن أحمد: لا يحسن اختيار الكلام إلا من يعلم ما لا يحتاج إليه منه.
وعندما يتحدث المرء في موضوع ما يلعب العلم دوره، ويتدخل العقل، وتظهر النتيجة من خلال إمكانية ترجمة القول إلى فعل على ضوء ما يتحلى به المتحدث من القدرة على التحكم في الأمور وإخضاعها لميزان العقل.
وبفضل العقل والعلم وخدمة كل منهما للآخر يستطيع المتحدث أن يؤهل نفسه لتحويل القول إلى فعل في بيئة تتكامل عناصرها وتلتقي دوائرها بعيداً عن خداع القول وهجنة العقل وغياب الفعل، وقد قال أحد البلغاء: زيادة المنطق على العقل خدعة وزيادة العقل على المنطق هجنة، وأحسن من هذا وذاك ما زين بعضه بعضاً.
والعاقل يحترم الكلمة ويحسب حساب التفسيرات المحتملة، فلا يتكلف ما لا يجيد، ولا يذهب في الاتجاه البعيد، متسلحاً بسلاح العقل والعلم والتناسب بين القول والفعل لضمان توضيح الحقائق وإعطاء الانطباع اللائق.
ومطلوب من المتكلم أن يوازن بين عقله وعلمه وقوله، فلا يطغى علمه على عقله ولا يزيد قوله على علمه، وخير القول ما اقترن بالفعل وجمع بين النظرية والتطبيق والدراسة والممارسة، والقدوة هو الذي يُعلّم بأفعاله لا بأقواله، وقد وُصفت بلاغة رجل عند علي بن عبد الله بن عباس فقال: إني أكره أن يكون مقدار لسانه فاضلاً على مقدار علمه، كما أكره أن يكون مقدار علمه فاضلاً على مقدار عقله.
ومن الزيادات غير المرغوبة زيادة العقل على الدين وزيادة الأدب على العقل وزيادة القول على الفعل وهي زيادات يترتب عليها انحراف المسار وتحول النفع المراد إلى ضرر وفساد، الأمر الذى يستدعي التوفيق بين هذه الأمور وضبط ميزانها تمشياً مع الحكمة التي تقول: إن من التوقي ترك الإفراط في التوقي، وقد قال أحد الحكماء: إذا كان علم الرجل أكثر من عقله كان قميناً أن يضره علمه، وقد قيل: إن زيادة القول على الفعل دناءة وشين وزيادة الفعل على القول مكرمة وزين، وسئل أحدهم: متي يكون الأدب شراً من عدمه؟ فقال: إذا كثر أدب الرجل ونقص عقله.
وإذا ما نظرنا من هذا المنظور إلى الذي يشغل منصباً في مؤسسة أو مصلحة حكومية فإنه يكون في المعترك، وعقله وعلمه وما يقوله لسانه على المحك، كيف لا وهو يعرض عقله وينشر فكره في مختلف المواقف ذات الصلة بالمهنة، مما يتطلب منه أن يحسب لكل أمر حسابه ويضعه في نصابه، ويجعل من نفسه قدوة في القول والعمل، مستخدماً عقله ومغلَّباً فعله على قوله، منطبقاً عليه قول الشاعر:
أراك تفعل ما تقول وبعضهم
مذق اللسان يقول ما لا يفعل
والقول عندما يمتزج بالسلوك يرتقي إلى مستوى الفعل وعندئذ تتضح الصورة أمام شاغل المنصب الذي يجعل المصلحة العامة نصب عينيه قولاً وعملاً، موثقاً العلاقة بين ما يقول ويفعل.
وشاغل المنصب حتى ينسجم قوله مع علمه وفعله مع عقله يتعين عليه أن يعرف حدود مسؤوليته ومجال سلطته مع التمييز بين حالات التقصير وحالات القصور، وكيفية التغلب على الأولى والتعامل مع الثانية، بدلاً من المبالغات التي يجني من خلالها على نفسه ويجعل يومه شاهداً على أمسه.
والمبالغات غير المقيدة لها تأثير عكسي على موضوعها حيث ينظر إليها الحاقد والحاسد بعين طبعه ويستغل الأعداء تناقضاتها ومخارجها المتجاوزة للحد، باعتبار ذلك زيادة في القول على الفعل واختفاء حكمة العقل، متخذين منها مادة دسمة لتشويه الحقائق والتصرف غير اللائق.
وأي تناقض لقول شاغل المنصب مع فعله نتيجة للمبالغة غير المنضبطة، يفتح شهية أعداء النجاح من أصحاب الأهواء الذين اعتادوا على المكر والتصيد في الماء العكر، وذلك بالتجني الظالم والافتراء الآثم ضد أولئك الذين يعملون بصمت وفي حالة سباق مع الوقت.
والمبالغة إذا فقدت قيودها المقبولة وتجاوزت حدودها المعقولة ابتعدت بالموضوع المبالغ فيه عن جوهره الحقيقي، وجعلته يأخذ طابعاً مظهرياً يفقده قيمته ويطمس حقيقته بسبب طغيان مثالب القول على مناقب الفعل وابتعاد حكم العقل.
ومهما كانت غاية القول فإن الفعل هو الغاية المنشودة منه، والقول في غياب الفعل لا قيمة له ولا معنى، وذلك نتيجة لنقص مكوناته واعتباره خالياً من المضمون، والدين الحنيف يحث على الفعل والربط بينه وبين القول كما ورد في قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}.
والذي يحسن القول يتحتم عليه أن يحسن الفعل ليجمع بين مزية اللسان وثمرة الإحسان انطلاقاً من أن الأول يدل على العلم والثاني يدل على العقل ووجودهما على نحو متوازن في قالب واحد يمثل عنوان النجاح وميزان الفلاح، وقد قال الشاعر:
بالعلم والعقل لا بالمال والذهب
يزداد رفع الفتى قدراً بلا طلب