حنان بنت عبدالعزيز آل سيف
أما للفتى في العيش من نكد بُد
فيحيا ولو يوماً وليس له ضد
هو شاعر فيلسوف امتهن القضاء والأدب فحلق فيهما، ثم هو شاعر لبناني نضير قلما وجد له نظير في الأدب العربي المعاصر، تامر بن بواكيم منصور بن سليمان طانيوس الشقيق الأكبر للشاعر شبلي ملاط وعرفت أسرة ملاط في جبيل لبنان من جدها الأعلى الذي نزح من قريته في أوائل القرن التاسع عشر، واستوطن محلة تدعى الخريبة ثم غادرها صعوداً إلى بعبدا. تعلم الشاعر في المدرسة الإكليريكية في بلدة كسروان وكان يترأسها الخوري وكانت مواد العلم الأساسية فيها هي: اللغة السريانية وتفسيرها والمنطق وآداب اللغة العربية والمبادئ الدينية، فأقبل عليها واستوعبها وأحاط بشواردها، وكان لذكائه وفصاحة منطقه وسرعة خاطره وجمال طلعته محبباً إلى أساتذته قريباً منهم. ثم تعلم في مدرسة أهدن الحكومية ومن أهدن دعي إلى معهد غزير المعروف بالمزار وأقام سنتين، ثم اختار بيروت فأقام مدة يقرأ الفقه الإسلامي وتفرد بالتفسير السرياني وهو علم قلَّ المطلعون والمقبلون عليه، ثم دعي إلى خدمة الدولة فعين رئيساً لكتاب محكمة كسروان ورقي إلى عضوية محكمة زحلة ثم نقل إلى عضوية محكمة الشوف ورقي إلى رئاسة كتاب دائرة الحقوق الاستئنافية ثم عزل عن وظيفته فلجأ إلى بيروت واشتغل بالمحاماة ثم انصرف إلى حيفا بالناصرة ثم أعيد إلى الخدمة وعين رئيساً لمحكمة كسروان وأقام فيها زهاء ثماني سنين، وفي كتاب الأعلام يقول الزركلي: (وأوقع به الوشاة في حديث طويل فاضطرب عقله وأقام اثني عشر عاماً في ذهول واستيحاش من الناس إلى أن مات في بعبدا). وتحكي لنا ترجمته أنه وقع حادث تزوير في سجل رسمي, وكان قد سرق على أثره، فأوقف المترجم له بصورة همجية في إحدى غرف السراي, فاضطربت قواه العقلية وظهر التعب عليه واستولى عليه ذهول بات منه هائماً على وجهه، ولما أفرج عنه انزوى في بيته عاجزاً عن كل عمل، وعرف عنه أنه كان يتنزه في الأماكن الخالية وحيداً ينشد الشعر ويلحنه بصوته الرخيم لا سلوى له إلا الشعر، يقوله متى استقام عقله وثاب إليه رشده, فيأتي بالبديع المطرب وقلما خلت له قصيدة نظمها من دون أن يذكر مأساته ويصف حاله، وظل في دائه يدهش العالم بمعجزات شعره، له قصيدة (الشاعر المريض) يصف فيها حاله ومرضه وقد تألق فيها مترنماً شادياً، وهي التي حلل فيها شخصيته وطرب لها الكثيرون، وحفظوها يقول:
دعاني أجرع الغما
فجفني بالأسى نما
وخلاني أصيحابي
وسهم الغدر قد أصمى
فلم أبصر أخاً يرجى
ولا خالاً ولا عما
وجدّ الدهر في قهري
يحث الهمة الشما
أرى بيني وبين البؤ
سوداً طافحاً يماً
وهي قصيدة جميلة بديعة دالة على رقه الشاعر، وجمال ديباجته.
كما تذكر الكتب التي طرقت سيرته، والمراجع التي تطرقت إلى ترجمته أنه نظم في أغراض الشعر ومن ذلك شدوه في كل من الحكمة والمدح والوصف والإخاء والرثاء والغزل والمناسبات.
ومن قوله في الحكمة:
ولا عجب إن الأساة قلائل
وإن كثروا حين العداد إذا عدوا
فما لطبيب خطه واجتهاده
ولا لأديب من خضارمه سِندُ
فما كل ذي روح بحي حقيقة
ولا كل ميت من يغيبه اللحد
وحسبك مفقوداً حميداً مصيره
فإن الكريم البر موعُده الخلدُ
فما كل مفقود عزيز وجوده
ولا كلُّ موجود يعزله فقد
وتامر ملاط قد أفسدت السياسة شعره، فحينما أقيل من منصبه، تأثر عقله، وخرب جزء من دماغه فقال:
وإذا الدماغ تناولته عله
خاب الرجاء وضاع جهد الآسي
وقد تناغمت قريحة الشاعر بأروع الأبيات الشعرية فقالها وهو يرزح تحت مصيبته ومصيره المؤلم، ولما مات من يدعى (واصا باشا) وهو رابع متصرفي لبنان والذي كانت له يد في نكبة الشاعر قال:
قالوا قضى واصا وواروه الثرى
فأجبتهم وأنا الخبير بذاته
رنوا الفلوس على بلاط ضريحه
وأنا الكفيل لكم برد حياته
وله قصيدة سينية بديعة عنوانها: (وحدة الدين) يترنم فيها بقوله:
وأعمد إلى الوجدان لا تعدل به
شيئاً ولو مطر الغمام طقوساً
فالدين ماسنَّ الضمير محذراً
يومًا على المتعطلين عبوساً
وإذا نظرت إلى الوجود رأيته
بالحب يحيا سائاً ومسوساً
والدين آخر ما يزول إذا اغتدت
هذي العوالم ظلمة حنديسا
وله دالية تاريخية جميلة ورد ذكرها في الديوان، كما له قصيدة على غرار القصيدة التي قالها البحتري في (الذئب)، غير أن شاعرنا الفحل المعنى تامر ملاط تخيل أنه يقاتل نمراً فقال:
وليث تكاد الكف تلمس جلده
ترامت به الظلماء سدلاً على سدل
ثم مضى يطبعها على غرار (لامية العرب) في الغريب، حتى ختمها كما ختم الشاعر البحتري قصيدته:
وقمت فأعددت المدى، وسلخته
وأقلعت عنه أنفض النعل بالنعل
وشعره في مرضه وسواسه وذهوله لا يقل جودة وحسناً عن شعره في عافيته وصحته وله في الفكاهة تشطير لأبيات قالها محمد باشا المخزومي في (كبوت الشيخ نوفل) الذي يجري على ذكره المثل، فهذا النسر اللقماني لم يمت حتف أنفه، بل اغتالته المنية في ساحة النضال، حيث سقط تحت دولاب العربة في (نزلة الشحار) ومات ميتة الأبطال بين سنابك الخيول، فتفضل المخزومي برثائه، والشاعر تامر ملاط بتشطيره (فالكلام المحاط بهلالين للمخزومي باشا)، والآخر أي التشطير للملاط.
(وكبوت له خمسون عاماً)
به مرعى لأنواع الذباب
تراه بين ترقيع ورتق
(يقاسي بالعنامرَّ العذاب)
ولما هم صاحبة بقلبٍ)
على وجه غدا عكس الصواب
وألقاه على متنيه عجباً
(يعيد له به زهو الشباب)
(ترامى فوق دولاب ونادى)
أنوفل كن جلوداً في مصابي
وحسبي أنني عمرتُ دهراً
(فما لي راحة بسوى التراب)
وتامر ملاط كان شاعراً بليغاً سما به شعره إلى طبقة كبار الشعراء، وكاد يكون في طليعتهم لولا نكبة مرضه وذهوله. أجاد التقليد حتى قارب الإبداع في نسق القصيدة التراثية تصويراً وبناءً، كما أطلق العنان لشاعريته وخياله الخصب وكانت المعاني تنثال على لسانه في نفس شعري طويل, وكان معجباً بالشاعر الجاهلي تأبط شراً وكان له طابعه الخاص المميز في تجاوز الفصيح إلى فن الزجل حينما تدعوه المناسبات لذلك، ولم يكن استغراقه في تأمل الحضارة والأديان شاغلاً له عن الغزل ووصف الطبيعة ورسم أوصاف المخترعات الحديثة. هذا وتوجد طائفة من قصائده البديعة في (ديوان الملاط) الذي يضم ما عثر عليه من شعره، وشعر شقيقه شبلي الملاط. وذلك حينما عنيت جريدة الوطن التي أنشأها شبلي الملاط - بجمعه، وطبع في المطبعة الأدبية في بيروت عام 1925م، وتشير مقدمة الديوان إلى أن المترجم له وضع روايتين مسرحيتين إحداهما من النوع (التراجيدي) والأخرى من النوع (الكوميدي) كما تلمح المقدمة إلى عملين آخرين له، كان مصيرهما الضياع، وعرف عنه أنه قد ترجم إلى العربية بعضاً من قصيدة قالها ابن العبري عن السريانية وكان ذلك وهو مرتجل لها، ونشرت جريدة الروضة شيئاً من هذا الشعر الذي جرى تعريبه إلى اللغة العربية.
وخلاصة القول أن تامر الملاط شاعر قلما نجد له نظيراً من شعراء العربية الأفذاذ، وحينما تتصفح شعره تجد أصالة كأصالة أبي الطيب المتنبي وحكمة كحكمة أبي العلاء المعري وذكريات زمن مضى وولى وانقضى.
هذا وقد كانت وفاته يوم الأحد 27 كانون الأول سنة 1914م وهو في الثامنة والخمسين من عمره، ودفن في بعبدا، وتبارى الشعراء في تأبينه وتعديد مناقبه، وبكى بنو قومه أسداً صفدته أيدي الظلم وكتب أخوه شبلي على ضريح أخيه:
يا سائلاً لمن الضريح الم يقل
لك طيبه إن الضريح لشاعر
دهش الزمان كشاعر وكثائر
لبلاده دهش البلاد كثائر
وبنى كقاضٍ صرح عدل شامخاً
لهفي على ذاك البناء الداثر
أدرى رجال اليوم أي مهند
في ذا الضريح وأي علم زاخر؟
لو كان يخلّد حاكم أو شاعر
بنبوغه كتب الخلود لتامر
معلومات المادة مستقاة من:
- تحفة الزمن بترتيب تراجم أعلام الأدب والفن.
- أدهم الجندي - دار المقتبس طبعه 1- 2015 - 1436هـ.
- الأعلام لخير الدين الزركلي (2/ 83).
- قراءة في حياة وديوان تامر الملاط - نيل وفرات - 2016م.
- شعراء متفلسفون - رواد النهضة الحديثة مؤسسة هنداوي - 2023م.