فضل بن سعد البوعينين
دخل العالم في أزمة رقمية بعد انقطاع الإنترنت، وتعطل أجهزة الكومبيوتر التي تعمل بنظام التشغيل «ويندوز»، ما تسبب بضرر فادح للمواقع الإلكترونية والمطارات والقطارات والبنوك والأسواق المالية.
انقطاع غير مسبوق، من حيث نطاقه، جعل العالم في مواجهة حقيقة مع تحديات المنظومة الرقمية التي تسيطر على العالم وتحرك اقتصادات الدول، وتتحكم في مخرجاتها.
(تحديث خاطئ) في شركة الأمن السيبراني CrowdStrike أحدث ضررا شاملا وأدى إلى تعطل أنظمة الأسواق المالية، وشبكات القطارات، والرحلات الجوية، ومَنَع المستخدمين من الوصول إلى حساباتهم المصرفية، والاستثمارية، وعطلت خدمات النقل والرعاية الصحية.
«رُب ضارة نافعة»، فتداعيات الخطأ التكنولوجي، كشفت عن تحديات المنظومة الرقمية والبرمجيات الأجنبية التي صُمم بعضها على أسس استخباراتية. انقطاع خدمات الإنترنت، أو تعطل عمل أجهزة الكومبيوتر، أو فشل برمجيات الحماية يمكن أن يتسبب في شلل تام للقطاع العام، والقطاعات المالية، الاقتصادية، والخدمية.
برغم الكارثة الرقمية العالمية، خرجت الصين منها سالمة، بخلاف ضرر نسبي أصاب الشركات الأجنبية والفنادق الفاخرة، ويعود سبب ذلك إلى عدم استخدامها برمجيات «كراود سترايك» واستغنائها عن «مايكروسوفت»، واعتمادها على منتجات شركاتها التكنولوجية ومنها «علي بابا»، و«تنسنت»، و«هواوي»، إضافة إلى امتلاكها شبكة داخلية منعزلة، تضمن استدامة عمل منظومتها الرقمية بمعزل عما يحدث في العالم.
وفي المملكة، أعلنت الهيئة الوطنية للأمن السيبراني «أن تأثير العطل التقني العالمي على المملكة محدود»، وأكدت أن ضوابط ومعايير الأمن السيبراني عززت أمن وموثوقية فضاء المملكة السيبراني، مما كان له الأثر الإيجابي في حماية الجهات الوطنية والبنى التحتية الحساسة.
استشرفت قيادة المملكة أهمية الأمن السيبراني، وتأثيره المباشر على الأمن الوطني، وأهمية التوسع في بناء البنية الرقمية، وقطاع التكنولوجيا عموما، وركزت رؤية 2030 على القطاع التكنولوجي والتحول الرقمي، وأطلقت مبادرات لتعزيز البنية الرقمية وتحفيز الإبداع والابتكار التقني، والبرمجيات على وجه الخصوص، وإطلاق أقمار صناعية، والسعي لتوفير شبكات وطنية معززة للأمن الرقمي، وجودة الخدمات.
يشكل الأمن الرقمي جانبا رئيسا من الأمن الوطني الشامل، ما يستوجب التعامل مع العطل التقني العالمي من منظور الأمن الإستراتيجي، واستلهام الدروس والعبر، من خلال إجراء دراسات متخصصة حول الحادثة وبما يسهم في تعزيز أمن المنظومة الرقمية وتعزيز كفاءتها، وتحليل كامل البيانات من أجل الوصول إلى تصور شامل عن المتطلبات الأمنية الكفيلة بحماية المملكة من أي تداعيات تكنولوجية مستقبلا، وتسريع تنفيذ مبادرات نوعية قادرة على توفير الاحتياجات الوطنية من البرمجيات الآمنة المنتجة محليا، وتعزيز القدرات البشرية الوطنية التي يفترض أن تتولى زمام الأمور في أهم القطاعات الحيوية المنكشفة على جميع القطاعات الاقتصادية، والمالية، والحكومية والخاصة.
بالرغم من أهمية التحول الرقمي، إلا أن تطوراتها السريعة تفوق قدرة الكفاءات البشرية الوطنية على تلبية احتياجاته السوقية، من حيث الكفاية العددية، والكفاءة، وتقصر القدرات التكنولوجية المحلية عن إنتاج برمجياته الآمنة، ما يستوجب العمل على تعزيز الاستثمارات في قطاع التكنولوجيا، والتوسع في التعليم والتدريب التقني لبناء كفاءات وطنية قادرة على تلبية الطلب على الوظائف التكنولوجية المختلفة، وبما يضمن أمن المعلومات وحماية المنظومة الرقمية من الداخل وتحصينها من الاستهداف الخارجي. إضافة إلى أهمية خلق شبكات محلية آمنة، وبديلة في الأزمات، والاحتفاظ بالحوسبة السحابية الوطنية داخل المملكة ومراجعة البعد الإستراتيجي للشبكات والأنظمة الرقمية العالمية، والسعي لتحقيق متطلبات الأمن الوطني فيها، والتوسع في إنشاء الشركات التكنولوجية، وتحفيزها على الإبداع والابتكار، وخلق شراكات إستراتيجية معها لتطوير المنظومة الرقمية وتحقيق أمنها، وتطوير برمجيات قادرة على تلبية الطلب المحلي ومعالجة الثغرات الأمنية واقتراح البدائل المناسبة لضمان الحماية ومواجهة التحديات.
لم يعد الفضاء الإلكتروني، والمنظومة الرقمية مرتبطين بتدفق المعلومات، وتأثيرها في الأمن الوطني، بل بات أكثر ارتباطا بتشغيل القطاعات العامة والخاصة، والمؤثر الأكبر في الاقتصاد، والأنشطة التجارية، واستدامة العمليات، وسلاسل الإمداد، ما دفع الصين إلى وضع إستراتيجية خاصة للتعامل معه، وفق الأهداف الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وتطوير قدراتها من خلال محاور مختلفة ومنها، التهديد الشبكي، والأمن الإلكتروني، والاقتصاد المعرفي، لضمان أمنها الداخلي، والحد من الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية، والاستعداد لاحتمال نشوب نزاع عسكري إلكتروني في المستقبل، ما حفزها لتعزيز قدراتها في مجال الفضاء الإلكتروني. يمكن لإستراتيجية الصين الرقمية أن تتحول إلى نموذج تطوير وبناء لقدرات المنظومة الرقمية المحلية على أسس تكنولوجية وإستراتيجية، ومصدر إلهام للاحتياجات المستقبلية، وقاعدة لبناء المستقبل والدخول إلى عالم أنظمة الدفاع الرقمية، والجيوش الإلكترونية، والثورة الصناعية المقبلة، التي تعد البيانات أساسا لبنيتها التحتية.