د. محمد بن إبراهيم الملحم
عندما نتأمل مسألة الانغلاق العلمي في عمليات التعلم والتعليم وتحديدا على ممارسات المعلمين في التدريس فإننا سنجد أنفسنا إما أمام عقل مغلق أو عقل منفتح، وخاصة في تدريس العلوم، فالمنغلق هو الذي يحفظ القوانين وحلول المسائل ويقدمها للطلاب بطريقة ميكانيكية، ولو سأله أحدهم خارج نص ما تعوده من معرفة فإما يتخلص من الإجابة أو يقدم إجابة من محفوظاته دون أن يجلي ما وراءها من مفاهيم فيزيائية أو كيميائية مثلا ويضع السائل في لب الفهم والاستيعاب، وجدير بالذكر أنه في تدريس الفيزياء مثلا يغلب على كثير من الجامعات (وبالتالي المدارس الثانوية) أن تدرّس من وجهة نظر رياضية بحتة مع قليل من فيزياء الموضوع، فأغلب المحتوى التعليمي معادلات رياضية، ومع أهميتها وضرورتها وعدم الاستغناء عنها في تناول الفيزياء إلا أن من يملكون فن المناغمة بينها وبين مفاهيم الفيزياء ومعانيه التي خلف هذه المعادلات قليلين جدا مع الأسف، ولهذا تتخرج أجيال وراء أجيال بهذه العقلية المنغلقة على تقديم الفيزياء رياضيا مما جعلها مادة عسيرة الفهم على أغلب الناس. ومما يزيد الطين بلة في عالمنا العربي أن هناك توجها كبيرا في توليد مزيد من المعادلات لحل مختلف الحالات الممكنة لأوجه مسألة فيزيائية بينما هذه المعادلات مولدة من معادلة واحدة يمكن الاكتفاء بها واستنتاج تلك الصيغ لمن فهم واستوعب الموضوع، ولغير المتخصصين أقول اختصارا: إن هذه الممارسة تنتج جيلا تنطبق عليه المقولة الشهيرة «حافظ مش فاهم»... حتى لو كان بينهم متفوقون طبعا.
تدريس العلوم وبعض الموضوعات الأخرى في المدرسة يجب أن يستهدف صناعة العقول المنفتحة لا العقول المغلقة، ولذلك فإن الأسس الحديثة لتدريس العلوم تقوم على طرح التساؤلات، وعلى تكثيف التحديات المعرفية في المناقشة التدريسية، لا على التلقين والشرح المباشر، وواقع الحال في معلمينا ومدارسنا أنها أبعد ما تكون عن ذلك خاصة في ظل فقدان الغالبية العظمى من المعلمين هم أنفسهم لخاصية التفكير المنفتح، ففاقد الشيء لا يعطيه. والواقع المعيش هو سيادة التدريس التلقيني النمطي والذي لا يصنع إلا عقولا مغلقة، حتى لو وصلت بعض هذه العقول مستقبلا مستويات علمية متقدمة فستظل منغلقة لأنها لم «تتدرب» مبكرا على منهجية التفاكر والمناقشة والاستنتاج والاستقراء ولم تكوِّن خبرة عميقة في أن أمرا واحدا يمكن أن تكون له عدة أوجه، فقد عاش هؤلاء على القوالب الجاهزة. نعم تفوقوا ولكن بصيغة حافظ مش فاهم أو ربما فاهم ومنفتح في مجال وفي نفس الوقت منغلق في بقية المجالات.
وبعيدا عن العلم والعلماء والاكتشافات والاختراعات والتمرد على الواقع العلمي المعاصر للحصول على قفزات للإنسانية دعونا نفكر في شخصية الإنسان العادي، ألا يستحق أيضا أن يتحلى بعقلية مرنة قابلة للحوار متفهمة للرأي الآخر تحسن الإنصات وتسمع من الآخرين بطريقة فيها احترام للرأي الآخر المخالف لها، أليست هذه وسيلة التعايش التي تنقل الحياة قفزات سعادة للأعلى سواء في تعامل الإنسان مع أهله أو جاره أو زملائه بالعمل أو حتى مع ذاته فيصدق مع نفسه في حواراته معها، أليست هذه وسيلة لحياة زوجية هانئة وتناقص العدد المخيف لحالات الطلاق، أليست هذه وسيلة مثالية للتفاهم في غرف الاجتماعات على أفضل الحلول للخدمات للوصول إلى رفاهية المعيش بكل مدينة بدلا من التسليم لسيادة الرأي الواحد المتمحور حول مركز السلطة في الاجتماع وتبني رأيها أيا كان، أليست هذه وسيلة للتفاهم بين جيل الآباء والأبناء للوصول إلى رؤى مشتركة في التعاطي مع متغيرات الحياة الجديدة والعيش بسلام معا... وهكذا لن تنتهي قائمة منافع التحلي بعقول منفتحة مقابل العقلية المنغلقة، وهذه العقول المنفتحة لا يصنعها إلا التعليم فهل هذا هم لديه؟ وما مدى تقدمه في هذا السبيل؟ وما هي قياساته؟ الأجوبة ليست عندي، فابحثوا عنها عند غيري.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً