د. عبدالحق عزوزي
هناك موضوع يشغل بال الخاص والعام، ألا وهو كيف يمكن أن نحقق الأخوة الإنسانية ونؤسس للتنوع الديني والثقافي والإثني؟ هذا الموضوع يشغل الجميع في نظام دولي يتغير باستمرار؛ وقد فهم الجميع أن الحوار بين الديانات السماوية، يبقى غير كاف في واقعنا اليوم؛ وليس الدين هو ما يجمع بين الإرهابيين، بل يجمعهم الجهل بالدين كما أنه لا يخفى على كل متتبع حصيف أن العالم يعرف تحديات كثيرة، وهي تحديات من نوع جديد، تستمد خطورتها من خيانة الرسالة الإلهية وتحريفها واستغلالها، وهناك قناعة مشتركة عن ضرورة بناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك لأن القيم التي ترتكز عليها الديانات التوحيدية، تساهم في ترشيد النظام العالمي وتحسينه، وفي تحقيق المصالحة والتقارب بين مكوناته.
لا جرم أن الديانات الثلاث هي دين الرحمة بالناس، وتتضمن مبادئ إنسانية قادرة على إسعاد الإنسان وتحقيق آماله وحلّ مشكلاته، وكلنا مدعوون اليوم إلى إنفاذ هذه المبادئ وتحقيقها على أرض الواقع بالتواصل مع الآخر أياً كان، لتأسيس عالم تسوده العدالة والسلم والتراحم، وفتح صفحة إيجابية في العلاقة الحضارية بين الأمم والشعوب على أسس من الاحترام المتبادل، والتعاون في إعمار الأرض، وتحقيق أمن الإنسان وكرامته؛ فالتنوع الديني والثقافي في المجتمعات البشرية يستدعي إقامة شراكة عادلة وتواصل إيجابي ضمن عقد اجتماعي يتوافق عليه الجميع، يستثمر تعدد الرؤى في إثراء الحياة المدنية والحضارية، وتحقيق تنمية شاملة. والحوار الهادف بين الجميع ضروري لتفهم الرسالة الحقيقية للدين التي حاول التطرف اختطافها وتزوير معاني نصوصها، مع التصدي لدعوات الكراهية والإقصاء والاستعلاء، وتخليص العالم من العنف والتطرف المضاد، وإقامة تحالفات مخلصة تعزز الفهم الصحيح للآخر، وتستثمر الشراكة معه في خير الإنسان.
وقد أصدر الكاتب اللبناني المعروف أمين معلوف مؤخراً كتاباً قيماً سماه «غرق الحضارات» عن دار النشر الفرنسية العريقة والمشهورة «كراسييه» وأتى بأطروحة مختلفة لتلك التي جاء بها صامويل هنتنغتون بعد نهاية الحرب الباردة والتي سماها بنظرية صراع الحضارات.
السيد أمين معلوف لا يخرج عن المسلمات التي ندافع عنها، لأنه يؤمن بأن الفصل بين الشعوب بعضها البعض مسألة مستحيلة، كما أن حضارات الشعوب ترتبط فيما بينها ارتباطاً عضوياً. وهناك في نظره أمم ناشئة أو وليدة، تظهر وبقوة الآن على الساحة الدولية التي يسيطر عليها سباق التسلح، ويفرض نفسه على الجميع، فضلاً عن التهديدات الخطيرة المتعلقة بالمناخ والبيئة والصحة، وهي تهديدات تلقى بظلالها على الكوكب، وبالتالي «لن نتمكن من مجابهتها إلا بالتضامن الشامل الذي يجب أن نتحلى به لأنه يمثل السبيل الوحيد أمامنا للخلاص من التهديدات المحدقة بنا».
وفي الوقت نفسه يعزز الكاتب أطروحته «غرق الحضارات» بالتأكيد على حالة التحولات الكبرى التي تعرفها الساحة الدولية وتنعكس أيما انعكاس على الحضارات، فالولايات المتحدة الأمريكية، تعرف تغييرات جذرية على الساحة الدولية كما أنها تتجه إلى فقدان مصداقيتها الأخلاقية في العالم، بما يؤثر سلباً على صورتها الذهنية.
وفيما يتعلق بالقارة الأوروبية التي كانت «تتشدق في السابق أمام موطنيها بالمبادئ الإنسانية والأخلاقية»، يرى المؤلف أنها اليوم تتبنى سياسات عمومية هي نقيضة تلكم المبادئ، في الوقت الذي ينغمس فيه العالم العربي والإسلامي في قلب أزمة عميقة تتفاقم رويداً رويداً.
ولكن إذا سمح لنا بتشريح مستوف للساحة الدولية عبر العصور سنخرج بقناعة أن التناقضات لم تتوقف يوماً من الأيام، بل كانت في بعض الأحيان أكبر مما هي عليه اليوم وتجعلنا نخالف السيد امين معلوف في أطروحته، فالحضارات باقية باقية ولن تغرق ما دامت الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون، وهي مكونات الحضارة، مستمرة وما دامت تلكم الحضارات وعاء لثقافات متنوعة تعددت أصولها ومشاربها ومصادرها، لتمتزج وتتلاقح ولتشكل خصائص الحضارة التي تعبر عن الروح الإنسانية في إشراقاتها وتجلياتها، وتعكس المبادئ العامة التي هي القاسم المشترك بين الروافد والمصادر والمشارب جميعاً.
فعلى كل الدول والأفراد والشعوب والجماعات التأصيل للقواسم الإنسانية المشتركة لاجتثاث المغالطات والجهل من جذوره وأصوله، ولتتكون من خلال كل النوايا الحسنة والمبادرات الدولية شجرة العدل أصلها ثابت وفرعها في السماء، يستظل العقلاء بأوراقها، وينهلون من ثمارها الشافية، للقضاء على وباء الإرهاب والغطرسة والأهواء الطائشة والمضلة.