الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
الرقيةُ بابٌ شرعيٌّ للتداوي، وتأكيدٌ للتوحيد في قلوب العباد، وبرهانٌ على سلامة المعتقد، وهبةٌ ومنحةٌ من الله عز وجل لعباده، وعلمٌ يحتاج إليه كل مسلم ومسلمة، وهذا الباب قد تجرأ عليه كثير من المعالجين وغير المؤهلين، فاختلط بذلك الحق والباطل، والتبست المفاهيم، وانحرفت الرؤى.
ولذا كانت الحاجةُ ماسةً إلى تصحيحِ المفاهيمِ، وتمْيِيزِ الغثِّ من السمينِ، وبيانِ انحرافِ المنحرفينَ؛ لتستقيمَ الرؤية، وتبرز الصورة الشرعية للرقية، والمنهج الأمثل للرقاة.
وفي ضوء ذلك استضافت «الجزيرة» أحد العلماء الكبار المتخصصين في هذا العلم، وهو فضيلة الشيخ الدكتور عبدالله بن محمد الطيار مفوض الإفتاء بمنطقة القصيم، وأستاذ الدراسات الإسلامية العليا، الذي قام بالعديد من الدراسات والأبحاث العلمية، وفي هذا الحوار مع فضيلته كانت محاور الأسئلة تتعلق بالرقية، وواقعها المعاصر، والرقاة، وبيان أحوالهم، ومآلهم والمأمول منهم، وفيما يلي نص الحوار:
* ما أبرز النتائج والتوصيات التي تنصحون بها حول الرقية؟
- من المرتكزات التي تقوم عليها حياة المسلم، وتجنبه العقبات والمعوقات والعوالق القلبية والنفسية، حسن الاعتقاد، والإخلاص لله عز وجل في الأقوال والأفعال، والإقبال على القرآن الكريم قراءة وتدبرًا، واستشفاءً وتعلمًا، فهو منهل كل خير، ومنجاة من كل مكروه وشر، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو الحصن الأول، والملاذ الآمن للمسلم.
ومن تلك المرتكزات أيضًا: الإيمان بالغيب، قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (2-3) سورة البقرة، والواجب على المسلم الإيمان بالغيب أدركه عقله أم لم يدركه ما دام جاء به الخبر في القرآن والسنة، قال سبحانه: {إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (27) سورة الأعراف.
ومن المرتكزات أيضًا: الإيمان بالقضاء والقدر، والصبر على أقدار الله، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (11) سورة التغابن، وقال صلى الله عليه وسلم: (تَعلَمُ أنَّ ما أخطَأَكَ لم يَكُنْ ليُصيبُكَ، وما أصابَكَ لم يَكُنْ ليُخطِئُكَ) أخرجه أبو داود (4700).
* وما أهم الدوافع والأسباب لإقبال الناس على الرقية الشرعية؟
- أشار الله عز وجل إلى ما يصيب قلب المسلم نتيجة لتراكم الذنوب والمعاصي، بقوله سبحانه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (14) سورة المطففين، فكلما بعد المسلم عن المقومات الروحية، والحصون الشرعية التي تحيطه بحفظ الله عز وجل، كصلاة الفجر في جماعة والتحصن بالأذكار والأوراد الشرعية، فإن نتيجة هذا البعد، وذاك الإقصاء أن يعاقب المسلم بأمراض نفسية وبدينة ظاهرة أو باطنة وتسلط للشياطين وأقرانهم.
ومن المعلوم أن للاستشفاء أسبابًا وأبوابًا، وإقبال الناس على كل باب من تلك الأبواب يرجع إلى مدى ثقتهم ويقينهم بحصول الشفاء من ذاك الباب، فتجد المريض يقصد طبيبًا بعينه لعلمه بمهارته وطول خبرته، وكذا، فإن المسلم الموقن بالله عز وجل يطرق أول ما يطرق، ويبذل أول ما يبذل، الأسباب الشرعية للاستشفاء ممثلة في الرقية، والتحصن بالآيات القرآنية، والأذكار والأوراد الشرعية الصحيحة سواء بنفسه، أو عن طريق من يثق لدينه وعلمه من الرقاة والمعالجين.
وما أكثر تلك الدوافع التي تدفع الناس، خصوصًا في هذا الزمان الذي أقبلت فيه الفتن، وكثرت فيه المحن والإحن، وانسلخ أفراد من الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عز وجل وعليها، وفرّط آخرون في الأوراد والأذكار، من هنا: كانت الحاجة إلى سبب شرعي يجلي ما علق بالأبدان من الأسقام.
* وهل طلب الرقية لأي أحد، أم لفئات من الناس؟
- الرقية الشرعية سواء كان الداعي لها مرضًا بدنيًا أو نفسيًا أو من عين أو سحر أو غير ذلك، لا بأس بها ما دامت من القرآن الكريم والسنة الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الراقي معروفًا بالعلم والصلاح.
والدنيا دارُ همٍّ وغمٍّ وكدرٍ وتعبٍ ونصبٍ، ومن حكمة الله تعالى أنْ يبتلي عبادهُ بأنواعِ البلاءِ والاختبارِ، فمنْ رضيَ فلهُ الرّضا، ومن سخِطَ وقنَطَ فلهُ السُّخط، وإذا أصيبَ العبدُ بداءٍ أو مرضٍ، شُرع له طلبُ التّداوي، لما رواه أبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ تعالى خلق الدّاءَ والدَّواءَ، فتداووْا، ولا تتداووْا بحَرامٍ) صححه الألباني في صحيح الجامع (1762)، وقال أيضًا: (تداوَوْا عبادَ اللهِ، فإنَّ اللهَ تعالى لم يضعْ داءً إلا وضع له دواءً؛ غيرَ داءٍ واحدٍ، الهَرَمُ) أخرجه أبو داود (3855) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2930).
وعند مسلم من حديث مالك بن عوف أنه قال: (كُنَّا نَرْقِي في الجَاهِلِيَّةِ، فَقُلْنَا: يا رَسولَ اللهِ، كيفَ تَرَى في ذلكَ؟ فَقالَ: اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لا بَأْسَ بالرُّقَى ما لَمْ يَكُنْ فيه شِرْكٌ) أخرجه مسلم (2200) وحديث جابر رضي الله عنه أنه قال: (كانَ لي خَالٌ يَرْقِي مِنَ العَقْرَبِ، فَنَهَى رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرُّقَى، قالَ: فأتَاهُ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى، وَأَنَا أَرْقِي مِنَ العَقْرَبِ، فَقالَ: مَنِ اسْتَطَاعَ مِنكُم أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ). أخرجه مسلم (2199).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرقي أصحابه، ورقاه جبريل عليه الصلاة والسلام، ففي الحديث: (أنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ؟ فقالَ: نَعَمْ، قالَ: باسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِن كُلِّ شَيءٍ يُؤْذِيكَ مِن شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللَّهُ يَشْفِيكَ، باسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ) أخرجه مسلم (2186) وفي حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه أنَّهُ شَكَا إلى رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعًا يَجِدُهُ في جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقالَ له رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ضَعْ يَدَكَ علَى الَّذي تَأَلَّمَ مِن جَسَدِكَ، وَقُلْ: باسْمِ اللهِ، ثَلَاثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ باللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِن شَرِّ ما أَجِدُ وَأُحَاذِرُ) أخرجه مسلم (2202).
لفضيلتكم قصة واقعية مع الشيخ ابن باز -رحمه الله- حول دراساتكم وأبحاثكم في الرقية، فلو تكرمتم بذكرها للفائدة؟
- كنت ذات ليلة في عام 1412هـ عند سماحة شيخنا العلامة الشيخ عبد العزيز ابن باز -رحمه الله- ومعنا مجموعة من طلاب العلم ودار الحديث حول الرقية.
فذكرت للشيخ -رحمه الله- تجربتي في ذلك، فقال: لعلك تكتب حول الرقية. فقلت له: أبشر، لكن أرغب أن تقرأه وتقدم له، فقال: لا بأس.
فوضعت الخطة واسم الكتاب، حيث سميته: (العلاج الشافي من السحر والصرع والعين) فأرسل لي خطابًا يقرّ فيه الخطة، لكنه غيّر اسم الكتاب، وقال: كتابك من العلاج وليس العلاج، لعلك تسميه: (فتح الحق المبين في علاج السحر والصرع والعين) فسميته بذلك، ثم بعد أن أتممته، عرضته على سماحته، فقرأه كله، وقدّم له، وأوصى بقراءته، طبع عام (1413هـ) وبعدها بسنوات، تكرر اللقاء به -رحمه الله- وكان في تلك الأيام قد أقيم الحد على امرأة ساحرة، فطلب سماحته أن أكتب رسالة حول السحر، ويتم التركيز على العمالة، وآثارهم، فطلبت منه قراءتها، والتقديم لها، فوافق، ولما انتهيت منها عرضتها عليه، وكانت باسم (بلاد الحرمين المملكة العربية السعودية والموقف الصارم من السحر والسحرة) وقد طبعت عام (1417هـ)، ومن الرسائل أيضًا (الرقية الشرعية وجهالات بعض المعالجين) وقد طبعت عام (1428هـ)، ورسالة بعنوان: (كيف تتخلص من السحر) وقد طبعت عام (1424هـ).
لدى فضيلتكم سفر نفيس مطبوع ومنشور بعنوان: (الرقية الشرعية وجهالات بعض المعالجين) فهلا تكرمتم علينا بإيجاز تلك الجهالات، وسبل علاجها؟
- نظرًا لأهمية الرقية الشرعية، وموضوعاتها الماسة التي يحتاج إليها الناس في كل زمان ومكان وما طرأ عليها من انحرافات وخرافات، كان من توفيق الله عز وجل أن أفردت هذا الأمر ببحث كامل أسميته: (الرقية الشرعية وجهالات بعض المعالجين) شاركت به في مؤتمر حول الرقية، وفي الكتاب المذكور أفردت مبحثًا خاصًا حول الرقاة والمعالجين، وأحوالهم، وبيان انحراف الجهلاء منهم، ورد شبهاتهم، ودحض افتراءاتهم، والتحذير منهم، حتى يتقى شرهم من انخدع بترهاتهم، وينتبه لمكرهم من اغتر بهم من العوام وغيرهم.
وأوجر صفات هؤلاء الأدعياء لتمييزهم، والحذر منهم فهم لا يتورعون عن ادعائهم علم الغيب، والإخبار بأمور غيبية لا يعلمها إلا الله عز وجل، ويستعينون بالجن والشياطين، ويكذبون على المرضي، بل وربما أوصلوهم لقطع أرحامهم، ونبذ أقاربهم وجيرانهم بأن يخبروهم أن فلانًا من أرحامه قام بعمل سحر له وغير ذلك، وأشخاص هذه حالهم لابد أن تجد منهم التقصير في جنب الله عز وجل، فلا تجدهم في مساجد المسلمين، وتراهم قد تلبسوا بما يخالف الفطرة في الهيئات، والحركات، ولا يتورعون عن الخلوة المحرمة بالنساء.
ومن أبرز جهالات هؤلاءِ الرُّقاةِ وضعِ التمائمِ أو الأحجبةِ المكتوبِ فيهَا شيءٌ من القرآنِ أو الأدعيةِ في مكانٍ معينٍ من جسدِ المريضِ، أو وضعِهَا تحتَ الفِرَاشِ، وطلب تخيّل المريضِ لمن عانَهَ أثناءَ القراءةِ عليهِ، وقراءة القرآنِ أثناءَ الرُّقيةِ بمكبرِ الصَّوْتِ، أو عبرَ الهاتفِ معَ بُعدِ المسافةِ، أو القراءةُ على جمعٍ كبيرٍ في آنٍ واحدٍ، وكذا مسّ الرَّاقِي لجسدِ المرأة أو يدِهَا أو جبهتِهَا أو رقبتِهَا، وتفرُّغ بعضهم للرقيةِ والاتِّجَار بِهَا، ومبالغتهم في أخذِ الأموالِ من المرضَى، عن طريقِ ما يبيعونَهُ من الماءِ والزَّيْتِ والأعشابِ المقروءِ عليهَا بمبالغَ طائلة، وكذا العجلة في التشخيصِ وإيهامُ المرضَى بأنَّ فيهم كَذَا وكَذَا من غيرِ تثبُّت، وإيهام المرضّى بأنَّ فيه قراءةً مركزَّة وغيرَ مركزَّةٍ، من أجلِ نهبِ الأموالِ، واستغلالِ حاجةِ هؤلاءِ الضِّعَافِ.
فعلى كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ أنْ ينتبهوا لهذهِ الأمورِ فإنَّهَا مخالِفَةٌ للهدي النبويِّ الشريفِ، وأن يحرصوا على استعمالِ الرقيةِ بأنفسهِم، ولا يطلبونَهَا إلا عندَ الضرورةِ، ومن الرقاةِ الثقاتِ المعروفينَ بتُقَاهُم وصلاحِهِمْ.
* وما حكم أخذ الأجرة على الرقية؟
- يجوز أخذ الأجرة على الرقية؛ لما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا فِي سَفَرٍ، فَمَرُّوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَلَمْ يُضِيفُوهُمْ فَقَالُوا لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ رَاقٍ؟ فَإِنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ لَدِيغٌ أَوْ مُصَابٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: نَعَمْ، فَأَتَاهُ فَرَقَاهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَبَرَأَ الرَّجُلُ فَأُعْطِيَ قَطِيعًا مِنْ غَنَمٍ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا وَقَالَ: حَتَّى أَذْكُرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا رَقَيْتُ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: (وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ)؟ ثُمَّ قَالَ: (خُذُوا مِنْهُمْ وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ مَعَكُمْ) أخرجه البخاري (2276) ومسلم (2201).
قال النووي -رحمه الله-: (هَذَا تَصْرِيح بِجَوَازِ أَخْذ الْأُجْرَة عَلَى الرُّقْيَة بِالْفَاتِحَةِ وَالذِّكْر، وَأَنَّهَا حَلَال لَا كَرَاهَة فِيهَا) انتهى من شرح صحيح مسلم للنووي (14-188).
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: (لَا بَأْسَ بِجَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى الرُّقْيَةِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ) انتهى من الفتاوى الكبرى (5-408).
لكن الممنوع المبالغة في ذلك، وأن يتخذ الرقية حرفة له، أو يبالغ في بيع ما يقرأ فيه من الماء والزيت وغيرهما.
وهل طلب الرقية ينافي التوكل على الله؟
- الأخذُ بالأسبابِ المأمورِ بها شرعًا والعملُ بها لا ينافي توكّلَ العبدِ على ربِّهِ، فالمتوكلُ معتمدٌ عليهِ سبحانَهُ في جلبِ المنافِعِ ودفعِ المضارِّ. والتوكُّلُ يجمعُ بينَ الاعتمادِ على اللهِ، والإيمانِ بأنَّهُ مسبِّبُ الأسبابِ، وأنَّ قدَرَهُ نافذٌ، وأنَّ جميعَ الأمورِ كَتَبَهَا وقدَّرها سبحانَهُ، والرقيةُ لا تُنَافِي التوكّل على اللهِ، قالَ تَعَالَى: {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (23) سورة المائدة، وقَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (3) سورة الطلاق، وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (3) سورة الأحزاب.
وأعظمُ النَّاسِ توَكّلاً على اللهِ نبيُّنَا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وكانَ يأخُذُ بالأسبابِ في جميعِ شؤونِهِ، فإذَا خَرَجَ للقاءِ العدوِّ والحربِ اختارَ المكانَ والتوقيتَ المناسبَين، ولبسَ درعَهُ ليتوقَّى بهِ السّهامَ والضرباتِ. وكانَ صلى الله عليه وسلم يَرقِي نفسَهُ بالمعوذَّاتِ، وكانَ يقرأُ على أصحابِهِ رضيَ اللهُ عنهم إذا مرضُوا، وثبتَ أنَّهُ نفثَ على الغلامِ المبتلَى فذهبَ عنهُ، وعلَّمَ أمَّتَهُ أذكارَ الصّباحِ والمساءِ، والدخولِ والخروجِ من البيتِ، ودخولِ الخلاءِ، ونزولِ المنزلِ، وعند النومِ، وعند الطعامِ والشرابِ، وغيرِ ذلك كثيرٌ.
قال ابن حجر -رحمه الله-: (وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى) انتهى من فتح الباري (10-195).
لدى فضيلتكم سفر نفيس مطبوع ومنشور بعنوان: (فتح الحق المبين في علاج الصرع والسحر والعين) فهل تكرمتم علينا بإيجاز علامات السحر والمس والعين، وسبل علاجها؟
- الإصابة بالسحر أو الصرع أو العين ثابت بالكتاب والسنة، قال تعالى: {قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (116) سورة الأعراف، وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (سَحَرَ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِن بَنِي زُرَيْقٍ، يُقالُ له: لَبِيدُ بنُ الأعْصَمِ، حتّى كانَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّه كانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وما فَعَلَهُ) أخرجه البخاري (5763)، ومسلم (2189).
وفي إثبات الصرع قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (275) سورة البقرة، قال ابن كثير -رحمه الله-: (أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له؛ وذلك أنه يقوم قياما منكرًا) تفسير ابن كثير (1-326).
وفي إثبات الصرع قول الله تعالى: {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} (51) سورة القلم. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: (أي يعينونك بأبصارهم بمعنى يحسدونك لبغضهم إياك لولا وقاية الله لك، وحمايته إياك منهم، قال ابن كثير في هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل) تفسير ابن كثير تصحيح الشيخ خليل الميس (2-419).
وأما علامات المس والسحر والعين فليس هناك شيء ثابت في هذا الباب، لكنها اجتهادات المعالجين، فالمسحور يحب العزلة، وتقل شهيته، وينحل جسمه، ويكثر تفكيره، والمصروع يكثر قلقه، وأرقه، وصداعه، وتظهر عليه تصرفات غير طبيعية، والمصاب بالعين يأتيه الأمر فجأة، وتكثر شكوكه، وهواجسه، ويرتاح للقراءة، عكس سابقيه، وهذه أمور تقريبية، وليس هناك قطع فيها، ووصيتي لمن يعالج الناس ألا يستعجل في التشخيص قبل التثبت، وأن يكثر من النصيحة والتوجيه، ولا يخبر المريض بشيء إلا بعد ما يتثبت، فكم من شخص كان معافى ونتيجة تشخيص خاطئ، أصابه من الأمراض ما الله به عليم.
وأما سبل علاجها فكثيرة أذكر منها أهمها وهي تحقيق التوحيد الخالص لله عز وجل، والاعتصام بالكتاب والسنة، والإقبال على القرآن الكريم، وصدق التوكل على الله عز وجل، وتطهير البيوت من التماثيل والصور، وملازمة الأذكار والأوراد الشرعية، وبالأخص سورة البقرة، وآية الكرسي، والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة، والمعوذات، وصحيح الأدعية النبوية، والاستفراغ للمسحور، وكذا الحجامة، فإن لها أثرًا بفضل الله في إبطال السحر، والاغتسال للعائن إذا عُرِفَ.
وهناك أدوية طبيعية تنفع في العلاج بإذن الله منها: عسل النحل، والحبة السوداء، وزيت الزيتون، وماء زمزم، وماء السماء، وغير ذلك ما ثبت بالتجربة نفعه وفاعليته.
* رؤية فضيلتكم للواقع المعاصر والمأمول للرقية والرقاة؟
- باستقراء الواقع الحالي للرقية الشرعية، وأحوال الرقاة والمعالجين، يظهر جليًّا أن الجهل، وقلة العلم، عامل مشترك، وسبب رئيس في انحراف الرؤية الشرعية الصحيحة للرؤية، وخروجها عن مقصدها الشرعي كسبيل للعلاج، ومقصد للالتجاء إلى الله عز وجل، وتأكيد على حسن الظن بالله وتمام التوكل عليه، إلى درب من دروس الكهانة والشعوذة والدجل، والتلبيس على المرضي، واستغلال حاجتهم، والتكسب بأوجاعهم، وأسقامهم.
والسبيل الوحيد لتصحيح تلك الرؤية، وتعديل ذاك الانحراف، هو نشر العلم، ونبذ الجهل، والتعريف بهؤلاء المعالجين، والتحذير منهم، وتوجيه المرضى لما جاءت به النصوص الصحيحة من الكتاب والسنة، ونبذ ما سواهما من الأوهام والترهات.
* وما رأي فضيلتكم في الرقية عبر وسائل التواصل؟
- حقيقة الرقية أنها أذكار وأدعية وآيات تقرأ على المريض، والأصل فيها أن يفعلها المريض لنفسه بأن يضع يده على موضع الألم أو المرض من بدنه ويقرأ، أو يقرأ في يديه ثم يمسح بها، ولا بأس أن يرقيه غيره بأن يقرأ عليه وينفث مباشرة.
أما الرقية عن طريق الهاتف أو المذياع أو عبر النت وغيره من وسائل التواصل من غير أن يباشر الراقي المرقي؟ فالذي عليه الفتوى أنه لا تجوز الرقية عن طريق وسائل التواصل الحديثة؛ لأنه يشترط لصحة الرقية أن يباشر الراقي المرقي.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ما نصه: (الرقية لا بد أن تكون على المريض مباشرة، ولا تكون بواسطة مكبر الصوت، ولا بواسطة الهاتف؛ لأن هذا يخالف ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان في الرقية، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (مَن أَحْدَثَ في أَمْرِنا هذا ما ليسَ فِيهِ، فَهو رَدٌّ). انتهى من فتاوى اللجنة الدائمة (1-92).
* وما أهم توجيهات فضيلتكم للمعالجين والرقاة؟
- الواجب على من يتصدى للرقية، أن يتقي الله عز وجل، وألا يطل برأسه في هذا الجانب إلا بعلم وخبرة، وصدق ويقين، وإخلاص لله عز وجل.
وأوصي القارئ كذلك أن يقوم بجانب القراءة بواجب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فينصح المريض وأهله، فيوصيهم بتقوى الله والمحافظة على الصلاة، وكثرة الذكر والدعاء، والبعد عن المعاصي، والصبر على أقدار الله.
وأوصي القارئ أن يحاول التعرف على أحوال المريض، فإن تشخيص الداء نصف الدواء، وأوصيه كذلك ألا يظهر عورة المريض، ولا يذكر اسمه: فالناس لا يحبون ذلك، فلا ينبغي إفشاء أسرار الناس وأحوالهم، يقول صلى الله عليه وسلم: (الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ) أخرجه الترمذي (10-27)، وابن ماجة (11-172) وصححه الألباني في صحيح الجامع (6700) ويقول صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أخرجه البخاري (2262).
وأوصيه كذلك بتطييب نفس المريض وأهله، وأن يبعث روح الأمل في نفس المريض، وأن يهون عليه الأمر ولا يهوِّله، فكم من مريض راح ضحية تضخيم ما به فانهارت قواه، وكم من مريض شفي بإذن الله؛ بإدخال السرور عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْمَرِيضِ فَنَفِّسُوا لَهُ فِي أَجَلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَرُدُّ شَيْئًا وَيُطَيِّبُ نَفْسَهُ) أخرجه الترمذي (7-428) وضعفه الألباني في جامع الترمذي (4-412).