د.عبد العزيز سليمان العبودي
يقدم كتاب «الشيخوخة»* للألمانية إلكي هايدينرايش رحلة شخصية وموضوعية بأسلوب فريد، وذلك عبر جوانب مختلفة من مرحلة الشيخوخة، مثل الوحدة، والفقد، والعاطفة، وصراع الأجيال، مستخدمة مزيجًا من الجدية وروح الدعابة التي تميزها، مما يجعل الكتاب ممتعًا ومليئًا بالمادة الفكرية.
تعرض المؤلفة في بداية الكتاب نظرة صريحة وصادقة عن الشيخوخة، معبرة عن تجربتها الشخصية في الحياة. حيث تُظهر نفسها كشخصية مرنة ونشطة وهي في سن الثمانين، وتشارك القراء حكايات وتجارب من حياتها.
وتشير كذلك إلى أن السعادة تتكون من مجموع اللحظات السعيدة، وتشعر بأنها أقرب إلى السعادة اليوم أكثر مما كانت عليه في الماضي. تُبرز الكاتبة التغيرات الجسدية والعقلية والعاطفية التي تأتي مع الشيخوخة. وتتحدث بصراحة عن قلة الحركة والأوجاع والآلام، لكنها تؤكد أيضًا على التحولات التي تحدث مع التقدم في العمر. حيث تتغير الأولويات وتتطور العلاقات، ويتحدى إحساس المرء بالهوية، ويتعزز في السنوات اللاحقة.
أحد الموضوعات الرئيسية في الكتاب هو فكرة القبول؛ فالكاتبة تدعو إلى قبول مرحلة الشيخوخة كجزء طبيعي من الحياة بدلاً من محاربتها. وترى أن هناك نعمة في التخلي عن الرغبة في البقاء شبابًا للأبد، وبدلاً من ذلك ينبغي تقبل الحكمة والوقار الذي يأتي مع التقدم في العمر.
تتطرق الكاتبة أيضًا إلى الآثار المجتمعية للشيخوخة، مشيرة إلى كيف يتم تهميش الأفراد الأكبر سناً والتقليل من قيمة مساهماتهم. فتدعو إلى إعادة تقييم رؤية المجتمع لأعضائه من كبار السن، مقترحة أن هناك الكثير مما يمكن تعلمه من أولئك الذين عاشوا عمراً طويلاً، وشهدوا تغييرات مختلفة.
والكاتبة تستشهد باقتباسات متنوعة من الشعراء والمفكرين، ممن كتب عن تصارم الزمان، وطبيعة الوجود، مما يضيف عمقًا إلى سردها الشخصي. وتبين بعد ذلك، أن الشيخوخة ليست أفولًا، بل فرصة للنمو المستمر واكتشاف الذات. بالإضافة لذلك، تشجع الكاتبة على الامتنان للتجارب التي شكلتنا في الماضي، والفرح في الوقت الحاضر، والتطلع بفضول إلى ما قد يأتي بالمستقبل.
الكتاب غني بالمحتوى والأفكار، ويعالج التناقض المتأصل في مواقف الكثير من الناس تجاه الشيخوخة؛ فالجميع يريد العيش حياة مديدة، ولكنه لا يرغب بالوصول لمرحلة الشيخوخة. هذه المفارقة هي سبب الانزعاج والإنكار الذي يحيط بهذه المرحلة. لذا تعالج الكاتبة هذا الانزعاج، عبر تجاربها الخاصة، فتوظفها كعدسة لعرض القضايا المجتمعية الأوسع. فتبرز أهمية العلاقات بين الأجيال وكيف يمكن أن تُسد الفجوة بين الصغار والكبار. كذلك تشجع القراء الشباب على التفاعل مع الأفراد الأكبر سناً، والاستماع إلى قصصهم، والتعلم من تجاربهم. بعد ذلك، تتناول الكاتبة دور وسائل الإعلام والثقافة الشعبية في تشكيل تصورات الشيخوخة، عبر إبراز مرحلة الشباب وتصوير الجوانب المميزة فيها، في حين يتم تهميش مرحلة الشيخوخة والتركيز على سلبياتها. لذا تدعو الكاتبة إلى تصوير الإيجابية للشيخوخة بشكل أكبر في وسائل الإعلام، مما يمكن أن يساعد في تغيير المواقف المجتمعية.
في نهاية المطاف، يقدم الكتاب دعوة للمجتمع للاعتراف بكرامة وقيمة أعضائه الأكبر سناً. وتذكيراُ بأن الشيخوخة ليست مجرد تجربة فردية ولكنها تجربة جماعية تؤثر علينا جميعًا.
ومن خلال الاهتمام بالمرحلة، وتقييم مساهمات كبار السن، يمكن للمجتمع، تعزيز ثقافة الاحترام والتقدير للحياة في كل مرحلة وتختم المؤلفة كتابها عبر رسالة أمل، مطمئنة القراء في كون الشيخوخة قد يصحبها بعض التحديات، فهي كذلك تجلب فرصًا للإثراء والوفاء. والكتاب يركز على الجمال الذي يمكن العثور عليه في كل مرحلة من مراحل الحياة، إذا كان المرء مستعداً للنظر. ويطالب بمكافحة التمييز على أساس السن في المجتمع، عبر أسلوب يتضمن تغيير التصورات، وتعزيز الروابط بين الأجيال، وتنفيذ السياسات التي تدعم كرامة وإسهامات كبار السن. ويمكن تحقيق ذلك من خلال تكوين بيئة تُقدر الحكمة والتجربة التي يحملها الكبار، وتشجيع التفاعل بين الأجيال المختلفة، والعمل على تغيير التصورات السلبية المرتبطة بالشيخوخة.
ومن خلال تبني هذه الاستراتيجيات، يمكننا بناء مجتمع أكثر شمولًا واحترامًا حيث يتم تقدير جميع الأفراد بغض النظر عن أعمارهم، مما يعزز من جودة الحياة للجميع ويدعم تماسك المجتمع بشكل عام.
(*) Heidenreich, Elke. (2024). Altern. Hanser Berlin in Carl Hanser Verlag GmbH الجزيرة Company KG.