د. جمال الراوي
وعلاج أحلام اليقظة المرضية نفسي بحت، وعلى المدمن عليها أن يتخلص من حالة الإحباط والهزيمة، ويسعى لتدارك ذاته، وإعادتها إلى الواقع الذي يعيشه، لتزداد نفسه أكثر ارتباطًا به، وعليه أن يفكر في إزالة العوامل المادية التي تحرض على تلك الأحلام، ويفعل عامل المصابرة على ما أصابه من بلاء، أو ما اعترضه من معوقات، ويحبس قلبه عن الجزع، ويمنع لسانه من التشكي، ويعود إلى واقعه مرة أخرى، ليتكيف معه... ولا شك بأننا -في عالم اليوم- تحيط بنا الفتن والأحداث الأليمة، فيعجز المرء في الخلاص منها، فيلجأ -كثيرًا- للهروب منها، بالشرود والاستغراق بأحلام اليقظة، ليرسم في مخيلته عالمًا خاليًا من الظلم والقهر، وكثيرًا ما يورد البعض نبوءات ليسقطوها على الواقع، فيوردون أحاديث شريفة، يجعلون منها أحلام يقظة، يعودون إليها -بين الفينة والأخرى- جعلوها ملجأهم الوحيد للخلاص.
وقد قسم العلماء أحلام اليقظة إلى إيجابية وسلبية؛ الإيجابية منها ما يساعد الإنسان على تنشيط الشق الأيمن من دماغه، وتقوية الروابط العصبية فيه، فيتحفز الخيال المنطقي والواقعي، مما يساعده على الإبداع، وتنمية مهاراته، أما السلبية، فهي أحلام مبالغ فيها، وغير واقعية، وقد تكون مستحيلة التحقيق!! وقد تكون أحلام اليقظة مفيدة، إذا استعملها الإنسان في أوقاتها المناسبة، لأنها تساهم في تخفيف التوتر والضغوط، وتساعده على نسيان الأحداث الحزينة، فقد يعود الطالب من مدرسته محزونًا مقهورًا بسبب معاملة أستاذه السيئة معه، فيتخيله وقد غير سلوكه، وأصبح أكثر لطافة معه، فترتاح نفسه لهذا الشعور، فتنقله أحلام اليقظة إلى حال من السكينة والسلام والسكون والطمأنينة.
فالنفس الإنسانية تشتهي وترغب، وتهوى وتحب، وتتمنى وتترقب، وتطمح وتجمح في آمالها، وتطمع في المزيد من المنافع لها، وقد أصبحنا -في عالم اليوم- نسمع أحدهم يتمنى أن يكون مطربًا مشهورًا، وآخر يطمح أن يكون لاعبًا محترفًا في أحد الأندية المعروفة، وأخرى تتمنى أن تصبح ممثلة ذائعة الصيت؛ جميعها أمنيات وآمال ورغبات، للحصول على حظوظ النفس في السمعة، ونيل التمجيد والثناء والمديح، والله تعالى يخاطب هؤلاء ويقول لهم: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (الكهف:46).
بالمقابل؛ قد يتمنى الإنسان أماني طيبة، يحلم بها، يرى فيها خيرًا ومنفعة له ولغيره، وقد يتضجر لعدم تحقيقها، فالخير فيما اختاره الله تعالى، لأنه لو تحقق له كل ما أرد وحلم به؛ لأصبح شغله الشاغل، وأصبح محور حياته كلها، وكثيرًا ما تردد الألسن مقولة معبرة: «لا يؤخر الله أمرًا إلا لخير، ولا يحرم الإنسان أمرًا إلا لخير، ولا ينزل عليه بلاءً إلا لخير، فلا يحزن، فرب الخير لا يأتي إلا بخير»، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرًا له» (صحيح مسلم)؛ وهي فضيلة ليست موجودة سوى عند المؤمن، إن نالته نعمة شكر الله تعالى عليها، لأنه عرف حق الله تعالى فيها، فتدفعه لزيادة الطاعة والعبادة امتنانًا له وشكرًا، وإن أصابته ضراء، صبر وانتظر الفرج من الله تعالى، واحتسب الأجر منه.
وعلى الإنسان أن لا يسعى لتسيير أموره وفقًا لأمانيه، لأنها كما يقول أبو الطيب المتنبي:
مــا كل مـا يتمنى المـرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وعليه أن يعود إلى واقعه، ويجعله نصب عينيه، وإن كان مرغمًا على التمني، فيجب أن تتناسب الأمنيات مع قدراته، وأن لا يضيع عمره شوقًا وهيامًا، انتظارًا لتحقيقها، فالانتظار -في تحقيق الأماني والأحلام- يحرق القلب، ويتعب النفس.
وعلى الإنسان الحالم أن يفهم الحقائق، ويدرس الواقع، ويعرف سنن الله في التغيير، وهذا ما يجعله مدركًا لتفاصيل ما يجري بعمق وإدراك، وهي الخطوة الأولى لفهم طبيعة الأحداث وتغير الأزمنة، فالنفس الإنسانية -بطبيعتها- تعيش ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، تتقلب بين هذه المراحل العمرية، وتتعامل معها سواء بالواقع أو بالأحلام؛ فإن أحسنت التعامل معها جميعها، وجدت حصاد ما زرعته، فإن فكرت في ماضيها واستفادت من دروسه، واستغلت حاضرها، فإن مستقبلها سيكون متوجًا بحياة كريمة هنيئة.
وللعلم بأن النفس الإنسانية اليائسة، والخائبة في حاضرها، لم تحسن استغلال ماضيها؛ فتندب شبابها الضائع، بعد أن وجدت حالها تعيش واقعًا أليمًا، مجردة من كل حيلة، وفاقدة لكل أمل ومخرج، مجبرة على تقبل حاضرها بكل ما فيه من ضنك وتعب ومشقة... فالإنسان يشقي نفسه بنفسه، بسبب إضاعته لفرص كثيرة في ماضيه، وهذا حال كثير من الناس ممن يتحسرون على عدم إكمال دراستهم، أو عدم الاستفادة من فرص ضائعة في التجارة أو العلم أو غير ذلك!
وتقول الدراسات النفسية بأن العقل يصطنع الأماني والأحلام، للهروب من الواقع، فالمريض يتمنى الشفاء ويحلم به، يراجع الأطباء، ويستعمل الأدوية سعيًا لتحقيق حلمه، وإذا طالت مدة الانتظار، دخل الخوف واليأس إلى نفسه، فتقل الآمال، وقد تضيع وتختفي من خياله، فيصاب بالانطوائية والانعزالية، ويكتنف نفسه الخوف والقلق، فتغزوه الأفكار السوداوية، ويتصور الموت يترقبه في كل حين..! والفتاة التي كانت تحلم بفارس الأحلام، وتعد الأيام والسنين، والعمر يمضي بها، قد تصل إلى مرحلة اليأس، فتقنع نفسها -أخيرًا- بأن قطار الزواج فاتها؛ فتدرك بأن أمنيتها أصبحت مستحيلة..! والشعوب المقهورة الضعيفة، تحلم بالانفراج والفتح العظيم، وقد تخلصت من الظلم والحيف الذي لحقها، وإن طالت أزمتها وتعسرت، تفقد -لاحقًا- كل آمالها دفعة واحدة، وتبدأ النواح والتشكي!
فالدماغ يصطنع الأماني للنفس الإنسانية، ليساعدها على المقاومة، فإن ظهرت عوائق جديدة، يزداد القلق والخوف، فيصبح العقل غير قادر على مقاومتها، فتستلم النفس الإنسانية لقدرها وتستكين، وقد ورد في صحيح البخاري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «يسّروا ولا تعسروا، وبشروا، ولا تنفروا»، فالنفس الإنسانية سريعة التأثر بالعوامل الخارجية، تثبطها أو تعيد لها نشاطها، والكلمات التحفيزية لها أثر بالغ؛ فالإنسان يفرح إذا وجد من يعينه في عثراته، ويساعده في المضي لتجاوز العوائق والأزمات التي تمر به.
هذا مع العلم بأن الأماني والأحلام تنقسم إلى قسمين: أحلام مقيدة، وأخرى مطلقة؛ المقيدة منها تتعلق بفترات ماضية، فات أوان تحقيقها، فالإنسان -كثيرًا- ما يتأسى على فترة الشباب والحيوية، وهو يرى الضعف والعجز يغزوان جسمه، فيتحسر على تلك الأيام الخوالي، فعن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه؛ اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» (الترغيب والترهيب)، فعلى الإنسان أن يستغل هذه الفترات الذهبية في حياته، قبل أن تشغله الشواغل، فيتحسر على ما فاته، فتصبح أمانيه وأحلامه غير قابلة للتحقيق.
فالأحلام المقيدة؛ تفقد النفس الإنسانية معها كل أمل في تحقيقها، وهذا حال كبار السن، الذين ضاع عنفوانهم، وضعفت قواهم، وشاخ جسمهم وأصبح هرمًا، وقد تركوا -في ماضيهم- جسمًا غضًا طريًا لينًا، فتنهار أحلامهم، وتختفي من عقلهم الباطن، وقد صور الله تعالى تغير أحوال الإنسان بقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} (الروم: 54)، ومن المكارم العظيمة، والفضائل الجسيمة، البر والإحسان إلى كبار السن، ورعاية حقوقهم، والقيام بواجباتهم، وتعاهد مشكلاتهم، والسعي في إزالة المكدرات والهموم والأحزان عن حياتهم.
أما الأماني المطلقة، فهي ما نحلم بها، ونسعى لتحقيقها في حياتنا الدنيا... فالحياة جميلة، والغد يصبح أكثر جمالًا إذا تحققت أحلامنا، وسعينا لها بجد ونشاط ومثابرة.. فالمديون يحلم بتسديد ديونه... والمعتقل يحلم بالخروج من سجنه... والفقير يحلم بأن يغنيه الله تعالى من فضله... والمريض يحلم بالشفاء.. والعانس تحلم بشاب يكمل لها نصفها الضائع... والطالب يحلم في النجاح حتى يحصل على شهادة تؤهله للعيش الكريم.. فالأحلام -إن كانت واقعية- سبيل النفس الإنسانية لتعيش بسعادة، حتى تنمو وتتطور، وتحقق الغاية المرجوة من خلقها، وتؤدي واجبات خلافة الله تعالى لها فوق الأرض.