د. فهد صالح عبدالله السلطان
كثيرة هي الأسئلة التي بدأت تطرح هذه الأيام حول الأهداف والغايات التي تقف وراء التوجهات العالمية الاجتماعية المتطرفة مثل هدم الأسرة ومحاربة التكوين الاجتماعي وتعميم الشذوذ وحرية اختيار الجنس والهجمة الشرسة على القيم والمبادئ ودعم الإلحاد ومحاربة الأديان وبناء مجتمعات لادينية والتي يتم تشييعها ودعم انتشارها ومحاولة تصديرها بشكل ممنهج ومتسارع خلال الأعوام القليلة الماضية. ليس هذا فحسب بل ومن خلال قوانين وأدوات تتعارض مع الديموقراطية المزعومة في موطن نشأتها ورحم تكوينها.
وقد سألت الذكاء الاصطناعي (Monica, ChatGPT) عن أهداف هذه التوجهات والدعم السخي القوي والمتسارع لها فأجاب ما نصه: «أنا آسف، لا أستطيع المساعدة في الإجابة على هذا السؤال. الموضوع حساس......» انتهت إجابته.. لا تعليق.. وهذا يعزز القول بأن هناك أهدافاً استراتيجية بعيدة المدى وغايات غير معلنة تقف وراء تلك التوجهات. وقد وجد البروفيسور عبد الله البريدي في دراسته العلمية «إمبريالية الشذوذ» من منشورات مركز الأمير عبد المحسن بن جلوي للبحوث والدراسات الإسلامية أن سبب شيوع هذا الانحراف يعود إلى أربعة أسباب رئيسة: الاحتجاجية، الفردانية، اللامسوؤلية والإمبريالية. والواقع أن تلك التوجهات تتعدى موضوع الشذوذ فهي تشمل بالإضافة للشذوذ كما أسلفنا هدم الأسرة ومحاربة التكوين الأسري وتعميم الشذوذ وحرية اختيار الجنس والهجمة الشرسة على القيم والمبادئ ودعم الإلحاد ومحاربة الأديان وبناء مجتمعات لادينية.. والذي يبدو أن شيوعها ودعمها بشكل ممنهج يتجاوز الاتجاهات الغريزية الشخصية والسلوك الفردي أو حتى سلوك الجماعات، وأن وراءها توجهات سياسية وتنظيمية عالمية. فالملاحظ أن مليارات الدولارات قد تم تخصيصها لتلك الحملات لتنفيذ برامج استراتيجية من خلال مناهج محكمة وقوانين وتشريعات مؤصلة تدعم تلك التوجهات. جهود لا يمكن أن يقوم بها أفراد أو حتى جماعات محدودة. ويبقى السؤال المهم هو: ماهي الأهداف (الاستراتيجية) وراء تلك التوجهات؟ أعتقد أنه من أهم الأسئلة التي يستحسن أن تطرح بكل شفافية، وأن الإجابة عليه مسألة مصيرية للأمة بأكملها.
حاولت خلال الأشهر القليلة الماضية وبجهد شخصي متواضع تكتنفه المحددات البحثية الوقوف على الأسباب الرئيسة والأهداف الاستراتيجية وراء تلك التوجهات واتضح لي أنها تعود لأكثر من هدف وتستند إلى استراتيجية ممنهجة يشوبها الغموض تم إحاطتها بسرية كاملة.. لا أدعي أنني تمكنت من معرفتها بشكل جلي. ولذا فقد اكتفيت بالاجتهاد في طرحها طرحاً أدبياً يستند إلى البحث والقراءة والملاحظة وآراء الكثير من أصحاب الفكر والرأي في تلك المجتمعات، وربما ينقصه التأصيل العلمي. وخلصت إلى أن هناك أهدافاً رئيسة وأخرى فرعية وسأكتفي هنا بطرح أهم الأهداف الرئيسة (الاستراتيجية) من وجهة نظري الشخصية:
أولاً: هدم الأسرة ومحاربة التكوين الاجتماعي: وذلك على اعتبار أن الأسرة لدى كثير من الشعوب تمثل الركن الأساس في التكوين الاجتماعي الذي يمثل فيصلاً في صلابة المجتمع وترابطه وصعوبة اختراقه واستعصائه على الأفكار الملوثة.
ثانياً: تشييع ودعم الحرية البهيمية المفرطة وصولاً إلى هدم المبادئ والقيم الراسخة التي تعزز مناعة الشعوب المستهدفة واستعصائها على الهيمنة الناعمة الخارجية.
ثالثاً: تحديد النمو السكاني لدى المجتمعات الأخرى.. وقد بدأت هذه التوجهات تلوح بالأفق منذ مؤتمر فيرمونت في مدينة سان فرانسيسكو عام 1996 والذي نتج عنه النظر إلى العالم بمنظور 20/80، أي أنه يجب أن يستحوذ النخبة الذين يمثلون 20% من سكان العالم على 80% من ثرواته بينما يقتات 80% من سكان المعمورة على ما نسبته 20% من الثروة. ومن ثم صدر كتاب فخ العولمة: الاعتداء على الديموقراطية والرفاهية (Global Trap) للكاتبين بيتر مارتين وهانز اللذين كشفا فيه توحش الرأسمالية الحديثة، وتعارضها مع مبادئ الديموقراطية المزعومة.
ومن هنا فإن التوجه إلى تقليص سكان المعمورة أملاً في كفاية 20% من ثروتها لتغطية ما يكفي لبقاء 80% من سكانها على قيد الحياة يعود للتسعينيات الميلادية. وقد كتبت عن ذلك أيضاً في حينه في مجلة اليمامة.فضلاً على أنه ليس من مصلحة أصحاب تلك التوجهات أن تستمر المجتمعات الأخرى في نمو سكاني شبابي مطرد بينما تشيخ مجتمعاتهم وتذوب في التكوين الأممي، خاصة وأن النمو السكاني عندهم محدود أصلاً.
رابعاً: نشر القيم والمبادئ الغربية في البيئة الكونية وصولاً إلى خلق بيئة اجتماعية عالمية موحدة، تحاكي البيئة البروتستانتية المتحررة تحرراً بهيمياً. وصدق جل في علاه «ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء». وهو ما يسهل أيضاً السيطرة الناعمة على تلك المجتمعات.
خامساً: فرض النموذج الغربي بنسخته الأصلية على المجتمعات الأخرى (وخاصة جيل الشباب فيها) بدعوى كونه نموذجاً ديموقراطياً يعزز الحريات.. والتسويق له بشكل يفضي إلى خلق وكالات ووكلاء محليين لمراكز فكرية وأيديولوجية غربية تبقى قواعدها في رحم الأم الذي نشأت فيه وتمثل مرجعاً أيديولوجياً لأنصارها ومؤيديها وأتباعها.. (إمبريالية ناعمة).
سادساً: التمكن من الهيمنة الفكرية على شباب المجتمعات المستهدفة: مما يمهد الطريق للهيمنة الأيديولوجية الشاملة. وهذا في نظري من أهم إن لم يكن أهم الأهداف. فمحاربة الأديان ودعم الإلحاد وخاصة الدين الإسلامي باعتباره الدين العصي على التوجهات الإمبريالية الناعمة يمهد الطريق ويسهل مهمة السيطرة الفكرية والأيديولوجية على المجتمعات المستهدفة ويساعد على تحويل مرجعيتها الفكرية والأيديولوجية إلى مراكز عالمية فكرية خارجية. ولعل من أهم الشواهد الحديثة على ذلك هي محاولتهم إذابة الأديان.
الشيء الملاحظ أن شمس تلك التوجهات بدأت تتلاشى استناداً إلى هشاشة المبادئ والأهداف والأسس التي بنيت عليها.. وهذه سنة كونية وحقيقة تاريخية، فما بني على باطل فهو باطل، فالتوجهات المبنية على أسس هشة ودعاوى غير صادقة وتعارض مع الفطرة لا تلبث أن تتلاشى وتضمحل وتهوي إلى القاع في إحدى مراحل نموها، ويعجز دعاتها عن حمايتها من السقوط. والحقيقة أن عدة تساؤلات بدأت تظهر على الساحة الاجتماعية العالمية حول مشروعية وموضوعية تلك التوجهات وحول الأهداف التي تختفي وراءها. لم تعد تلك الدعوات تحظى بزخم اجتماعي كما كانت تحظى به في الأعوام القليلة الماضية حتى في منطقة رحمها ونشأتها (المجتمع الغربي). وعلى عكس ما كان يتوقعه دعاتها وأنصارها، بدأت تظهر نداءات تندد بتلك التوجهات وتتساءل عن أهدافها وغاياتها، حيث بدأ البعض هناك يدرك تناقضها مع الفطرة، وأن دعاتها وأنصارها يخفون وراءها اهدافاً غير معلنة. يقول ايلون ماسك في مقابلة تلفزيونية بأن هذه الأفكار اليسارية أشبه ما تكون بالفايروس الذي يتغلغل داخل العقل البشري ويدمره وقال إنه سيدمر أجندة Woke التي تقف وراء تلك التوجهات.. كما وعد ترامب بأنه سيعمل في حال انتخابه على إيقاف برامج الشذوذ اليسارية المتطرفة.
وحري بنا كمسلمين ألا نقلق من ظهور بعض الصراعات الاجتماعية الشاذة في المجتمع الخارجي من وقت لآخر لأنها بالتأكيد ستتلاشى وتندثر في وقت ليس ببعيد عن ولادتها.. وهذا مؤصل في كتابنا العظيم الذي لا يأتيه البطل من بين يديه ولا من خلفه {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}.. الآية.. وكل ما علينا فعله هو تأصيل الحصانة لأبنائنا وبناتنا من كل دعوة خارجية تتعارض مع الفطرة ومع مبادئ وقيم ديننا الحنيف ومع دستور وطننا الكريم..
وختاماً فالحمد لله أولاً وأخيراً الذي قيّض لهذ الوطن الكريم قيادة تجمع بين الحكمة والصلابة تراجعت أمامها وتقهقرت إلى الوراء كل الدعوات التي تتعارض مع الفطرة ومع مبادئنا الدينية وقيمنا الاجتماعية. والحمد له على هذا المجتمع المؤمن العصي على كل الدعوات الخارجية الهدامة. حفظ الله وطننا وقادتنا ومجتمعنا من كل مكروه.