د. سامي بن عبدالله الدبيخي
استعرضت مجلة الإيكونيميست The Economist في عددها الصادر بتاريخ 17 يوليو 2024م مرونة التشريعات التخطيطية كعامل لتيسير الإسكان واحتواء الإيجارات. ويوضح التقرير أن للتشريعات العمرانية وتحديداً ضوابط تخطيط الأحياء السكنية دوراً حاسماً في مفاقمة مشكلة الإسكان إذا كانت مبالغة في صرامة اشتراطاتها. فهناك ضرورة للمرونة في التشريعات حتى تتكيف وتتلاءم مع احتياجات المجتمع ومتطلبات الإسكان المتغيرة باستمرار. تتيح هذه المرونة مجاراة الاشتراطات التصميمية والمساحية والارتدادات وارتفاع الأدوار لتغير تركيبة الأسر وتوزيع الوظائف وتنوع الأنشطة ومتطلبات الكثافة وكفاءة منظومة النقل العام. وهذا ما تثبته الحالات الدراسية في أوستن وأوكلاند.
كانت الضوابط التخطيطية في حي بولدن كريكBouldin Creek في مدينة أوستن Austin بولاية تكساس Texas تشترط مساحات قطع أراضٍ سكنية كبيرة والبناء عليها في أطرافها بارتفاع خمسة أمتار بهدف الحفاظ على طبيعة الحي السكني والحيلولة دون حدوث تمدد عمراني sprawling developments يلتهم المساكن الصغيرة امتثالاً لما تنص عليه الاشتراطات التخطيطية لماكمانشون «McMansion ordinance». إلا أن التجربة بينت أن الالتزام بهذه التشريعات يستدعي بالضرورة بناء مساكن كبيرة المساحة وباهظة السعر وإلا سوف لن تكون مجدية ولا قابلة للحياة.
فجاءت حركة الإصلاح التخطيطية المعروفة باسم «YIMBY «yes in my backyard» أي نعم للبناء في حديقتي الخلفية» والتي تقضي ببناء وحدات إضافية على قطع الأراضي السكنية لرفع كثافة التطوير «upzoning» مما أدى لإحداث تغييرات جذرية في التشريعات التخطيطية وساهم بدرجة كبيرة في الحد من تفاقم مشكلة الإسكان. فمن بين الإصلاحات التشريعية التي تبنتها مدينة أوستن كانت السماح ببناء ثلاث وحدات على القطعة التي كانت مخصصة أصلاً لفيلا منفصلة detached house كما سمحت بزيادة مسطحات البناء مع التقليص من الارتدادات بين المساكن بالإضافة إلى خفض الحد الأدنى للقطعة السكنية وهو ما يتيح بناء مساكن ميسرة للأسر. فرغم قصر فترة العمل بهذه الإصلاحات، إلا أن أوستن بدأت تتحسس رياح التغيير الإيجابي مستلهمة ذلك من تجربة أوكلاند، نيوزيلاندا، التي سبقتها بسنوات.
ويبدو أن الدول المتحدثة بالإنجليزية قد أغرتها هذه الإصلاحات التخطيطية. ففي هذا الإطار، يستعد حزب العمال في بريطانيا لتمرير ترسانة من التشريعات التخطيطية لتجسيد شعاره الانتخابي «لنجعل بريطانيا تبني من جديد» ويسعى حزب المحافظين المعارض في كندا لإصلاح تشريعاته العمرانية ليكثف من أعمال التطوير والبناء لتيسير المساكن كأحد أهم أهدافه الانتخابية.
وكمؤشر على نجاح الإصلاحات التطويرية لضوابط تقسيمات الأراضي السكنية التي تنادي بها حركة YIMBY، تراجعت أسعار السنة الماضية في أوستن 7 % للإيجارات و4 % للمساكن. هذا التراجع من بين الأهم على مستوى أمريكا بالرغم من ارتفاع الأسعار 60 % أثناء جائحة كورونا بسبب انتقال خبراء التقنية إليها للعمل من البيت هرباً من غلاء كاليفورنيا. لكن ما لبثت أن عادت الأسعار إلى سابق عهدها بمجرد انقشاع الجائحة.
يُستفاد من تجربة أوكلاند التي كانت رائدة في عملية الإصلاح وتعديل تشريعاتها التخطيطية بتبنيها مقاربة Permissive zoning التي أتاحت مرونة أكبر لاستعمالات الأراضي لتتوافق مع الاحتياجات المتغيرة للمجتمع. ففي 2016 كانت ثلاثة أرباع مساحة المدينة قد خضعت لإعادة التخطيط «upzoning» بحيث تتيح إقامة عمائر بدل مساكن الفلل بهدف إنشاء مخطط متضام للمدينة وبالتالي أكثر ملاءمة لمتطلبات الاستدامة البيئية. وهذا ما جعل إيجاراتها تنمو بوتيرة أقل من نمو الرواتب وإيجارات باقي مدن نيوزيلاندا. ولتعظيم الفوائد الناجمة عن هذه التشريعات الجديدة، عمدت أوكلاند لتخصيص مسار لخدمة الباصات يربطها بالضواحي والمدن التابعة (المدارية) المحيطة بها، وتخطط حالياً لإقامة خط آخر جديد للاستفادة القصوى من تشريعاتها المرنة التي تدعو لرفع الكثافة السكنية.
أما في حالة أوستن فإن التأثيرات الإيجابية لإصلاحاتها التشريعية تبدو أبطأ بعض الشيء بسبب حداثة التجربة وضيق فترة تطبيقها. وعلى خطى مدينة أوكلاند، فإنها عمدت لتبني نظام المترو الخفيف وتفكر في فرض رسوم على الاختناقات المرورية التي تعاني منها بسبب الرحلات اليومية القادمة إليها. ذلك أن تطبيق الإصلاحات فيها يقتصر فقط على مدينة أوستن دون أن يمتد لباقي المحافظات والمدن المحيطة. فهذه الاختناقات ما كانت لتشتد حدتها لو أنها سمحت برفع الكثافة السكنية مما يعني تقريب السكان من أماكن عملهم ورفع كفاءة منظومة النقل العام.