العقيد م. محمد بن فراج الشهري
بالرغم من أن قضية التأثير اليهودي في صنع أو عدم صنع السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، يكثر الحديث عنها في مناسبات مختلفة، إلا أن قلة ما كتب عنها يدعو إلى الدهشة فغالبية المعلقين تجدهم يحومون حول آثار الصوت اليهودي وحول الأموال اليهودية في السياسة الأمريكية.. والقليل الذي كتب حول اللوبي اليهودي رديء أو متحيز.. إلى الحد الذي يجعله غير جدير بالمطالعة».
فتضخيم نفوذ اللوبي الصهيوني وجعله وكأنه يحكم أمريكا شيء مبالغ فيه جداً، إلا إذا حاولنا فهم هذا النفوذ على أساس أن هذا اللوبي يعمل في بيئة سياسية وثقافية ملائمة إلى أقصى الحدود للأفكار الصهيونية التي تلقى الدعم المادي والمعنوي على المستويين الشعبي والحكومي. فاللوبي الإسرائيلي يعتمد على تأييد الجماعات غير اليهودية. ويعمل على تكوين تحالفات مع قطاعات عريضة من المجتمع الأمريكي. وحقق هذا اللوبي نجاحاً مشهوداً في ضم اتحادات وفنانين ورجال دين وباحثين وزعماء من السود إلى صفوفهم، وتسمح هذه التحالفات للوبي ببلورة إجماع شعبي عريض لسياسة موالية لإسرائيل.
كما أن المال اليهودي في الانتخابات لا يصلح تفسيراً للإجماع السياسي الذي يحظى به دعم إسرائيل في أمريكا، إضافة إلى أن في أمريكا من أهل الثراء غير اليهود ما يكفي لمعادلة المال اليهودي «فحجم رأس المال الذي يتحكم فيه أعضاء الجماعات اليهودية يشكل نسبة ضئيلة للغاية بالنسبة لرأس المال الكلي للولايات المتحدة».
كما أن الإعلام اليهودي لا يكفي تفسيراً لانحياز شعبي كامل يبلغ درجة الاعتقاد في بلد فيه من التعددية الإعلامية وحرية الكلمة ما يكفي لبلورة رأي مخالف لو كان له أنصار. ولهذا فإن تضخيم دور الزعماء الصهاينة أمثال هرتزل ووايزمان وغيرهما وجعلهم وكأنهم بذلوا جهودا خارقة وفوق العادة للحصول على مطالبهم أمر غير دقيق. فالأفكار الصهيونية كانت موجودة قبل ظهور الحركة الصهيونية بفترة طويلة، وتبناها أشخاص أوروبيون وأمريكان في وقت كان فيه اليهود يرفضون ويحاربون من يفكر بهذه الأمور. وسيتضح لنا هذا الأمر بصورة جلية عند حديثنا عن الحركة الصهيونية والظروف التي ظهرت بها.
«الحديث عن عبقرية اليهود والقول بأنهم عباقرة بطبيعتهم، يتطلب منا أن نعود إلى التقاليد الحضارية والظروف التاريخية التي شكلت فكر ووجدان كل من موسى بن ميمون، وفرويد، وإنيشتاين وغيرهم. وإلا فلماذا لم يظهر علماء طبيعة متفوقون تفوق أينشتاين بين يهود الفلاشا؟ إن فرويد وماركس وكافكا ومعظم عباقرة اليهود قد حققوا إبداعهم عن طريق الانسلاخ الفعلي أو المجازي عن موروثهم اليهودي، وعن طريق الانخراط في الحضارة العلمانية الغربية الحديثة».
من هنا يجب بداية تحديد المصطلحات، فاللوبي الصهيوني في أمريكا هو لوبي صهيوني مسيحي أولاً، وليس يهودياً. فالانحياز لإسرائيل يتغلغل في المجتمع الأمريكي لأسباب ثقافية ولاهوتية. وإذا كان هناك يهود يدعمون هدف تحرير فلسطين بصرف النظر عن عددهم فهناك صهاينة من المسيحيين يلعبون دوراً بالغ الأهمية في تقرير السياسة الأمريكية نحو الشرق الأوسط، أي أن اللوبي هو لوبي صهيوني يضم في صفوفه أفرادا وشخصيات وحركات لا تنحصر فقط في الطوائف والمنظمات اليهودية، بل تأثيره القوي كان بفضل المسيحيين الصهاينة في الدول التي انتشر فيها المذهب البروتستانتي مثل بريطانيا وأمريكا وهولندا وغيرها، والذين عملوا منذ أكثر من أربعة قرون على تحقيق الأهداف الصهيونية، وبذلوا جهوداً جبارة في سبيل ذلك وبفضل تأثير هؤلاء فقط يمكن الحديث عن لوبي صهيوني يؤثر في السياسة.
الصوت الانتخابي اليهودي:
بالمثل فإن تضخيم دور الصوت الانتخابي اليهودي في الانتخابات الأمريكية أمر مبالغ فيه ويناقض الواقع «نعم إن الجالية اليهودية نشطه ولها تأثير، ولكن القول بأنها تحكم أمريكا ليس صحيحاً، فلم يحدث أبداً أن كان الرئيس أو نائب الرئيس يهودياً ونسبة اليهود في الكونغرس لا تزيد إلا قليلا عن نسبة اليهود في أمريكا أي 2 إلى 3 %».
حيث يبلغ تعدادهم حوالي 7 ملايين نسمه تقريبا، أي أن أصواتهم الانتخابية لا تتعدى 2 إلى 3 % من نسبة الأصوات الانتخابية في أمريكا، وهذه النسبة ليست بالنسبة الكبيرة والتي تمكن اليهود من التأثير على سير الانتخابات. ولو كان لهذه النسبة أي تأثير لكان للمسلمين والعرب في أمريكا أثر في تشكيل السياسة الأمريكية، لأن تعدادهم يزيد عن تعداد اليهود هناك، حيث يبلغ 10 ملايين عربي ومسلم.
كما أن الصوت اليهودي ليس موحدا بالطريقة التي يتخيلها البعض، بل فيه تعدد وتباين واختلاف والتحيز لإسرائيل أعمق وأرسخ في بعض الولايات التي لا تكاد توجد بها جالية يهودية أصلا. وقد افتخرت صحيفة جيروزاليم بوست (Jerusalem Post) بتاريخ 27 تشرين الأول، أكتوبر - 2002، بأن «ولاية «مينوساتا» الأمريكية يمثلها يهودي دائماً في مجلس الشيوخ منذ عام 1978م رغم أن عدد اليهود بها لا يتجاوز 2 %، وكل ذلك يدل على أن الصوت اليهودي ليس أهـم عامل هنا، حيث إن السود يشكلون نسبة كبيرة من السكان، وبالرغم من ذلك لم نسمع عن أي أثر لأصواتهم الانتخابية ولم نسمع عن أي رئيس أمريكي سعى لاسترضائهم كما يفعل مع اليهود، إذا فالقضية ليست قضية صوت انتخابي فحسب...!
«يمكننا القول إن تضخيم قوة اللوبي والإعلام الصهيوني، وجعلهما مسئولين عن كل ما يحدث في الغرب هي أسطورة.. وهي امتداد للرؤية التآمرية الاختزالية البروتوكولية (نسبة إلى بروتوكولات حكماء صهيون)» (المسيرى، 1998، ص 278). فهذا التضخيم لأثر الصوت الانتخابي اليهودي ولأثر اللوبي الصهيوني في تشكيل السياسة الخارجية لأمريكا شيء مبالغ فيه إلى حدٍ بعيد, لكن الإعلام الصهيوني له أذرع متعددة ووسائل يتغلغل بها في الداخل الأمريكي ويأخذ من حريته.