فهد عبدالله العجلان
المتلازمات النفسية المرتبطة بالمدن عُرفت علمياً استناداً إلى دراسات ومتابعات طبية، وقد اشتهر منها متلازمات عديدة مثل باريس وفلورنسا وستوكهلم والقدس. قبل أيام كنت في بهو فندق باريسي في الصباح الباكر، وإذ بجانبي رجل أعمال ياباني -كما عرّف بنفسه- في منتصف الخمسينيات.. تجاذبنا الأحاديث وكان لابد من الحديث عن السياحة.. أخبرني أنه زار كثيراً من دول العالم وتعرّف على ثقافات عديدة وأنه يحب زيارة باريس... سألته مازحاً: إذن لم تصبك متلازمة باريس؟.. ضحك وقال: أصابت عائلتي لكني نجوت منها؛ فأنا رجل لا يرفع سقف التوقعات دائماً!.
«متلازمة باريس» هي اضطراب نفسي تصاحبه أعراض الغثيان والقيء والهلوسة وارتفاع معدل ضربات القلب، يصيب اليابانيين تحديداً، أو عرفت المتلازمة بهم على الأقل، وهم الأكثر تهذيباً وتطلعاً إلى المثالية عند زيارتهم لعاصمة النور كما حلموا بها!
هذه المتلازمة تمثل صدمة نفسية ثقافية يعيشها السياح حين يكتشفون تعامل المواطن الفرنسي الذي غُرس في ضمائرهم أنه يمثل عمق الحضارة الأوروبية الحديثة التي هيمنت على العالم، والطبيب النفسي الياباني «هيرواكي أوتاو» الذي كان يعمل في فرنسا في منتصف الثمانينيات هو أول من اكتشف هذه المتلازمة، وكان العلاج الوحيد الذي اقترحه هو سرعة العودة إلى الوطن ونسيان باريس وعدم العودة إليها مرة أخرى!.
أحد الأسباب التي وصل إليها من حللوا أسباب هذه المتلازمة, كان الإعلام الياباني، وخصوصاً المجلات التي كانت تتفنن في إظهار الجانب المشرق من العاصمة الباريسية بمتاحفها وفنونها وأزيائها على أغلفتها وصفحاتها، بعيداً عن الجانب الآخر المرتبط بتكدس القمامات والجرذان وفظاظة الفرنسيين مع من لا يعرف لغتهم.
أخبرته أنني سألت أحد الفرنسيين صباح الأمس عن مكان باللغة الإنجليزية وكان ودوداً ودلني على المكان بطريقة لا تعكس ما يشاع عنهم، فقال: «نعم تغيرت معاملة الفرنسيين مع السياح، لكن بعض النادلين والنادلات ذوي الأصول الفرنسية ما يزالون على النمط القديم»!.
سألني الرجل عن السياحة في المملكة وأنها تشهد تحولاً وتطوراً تاريخياً في البنية التحتية المادية والبشرية، والأهم في ذلك؛ التشريعات الداعمة لها، فسألته: هل زرت السعودية؟.. ضحك وقال: لا، للأسف، لكنني التقيت عدداً من اليابانيين من رجال الأعمال وغيرهم ممن زار بلادكم وجميعهم يحملون دهشة وإعجاباً لا يوصف رغم أنهم كانوا متخوفين من الزيارة، وكان سقف توقعاتهم أقل بكثير... ابتسمت ممازحاً: إذاً هي (متلازمة الرياض) لكنها هذه المرة بشكل إيجابي إذا صحت المقارنة بمتلازمة باريس.... ضحكنا ولم يقطع حديثنا إلا أسرته التي دعته لبدء الجولة السياحية اليومية المعتادة!.
قبل أيام شاهدت مع العالم الحفل الاستثنائي الخلاق تنظيمياً، الذي أقامته باريس في افتتاح الألعاب الأولمبية، وقد شعرت مع الملايين في العالم بالخيبة والألم من كمية الزخم اللاأخلاقي والاستهتار بالموروث الديني المسيحي المصاحب لهذا الاحتفال، والذي بدأ انتقاده من باريس نفسها؛ فقد علق مؤتمر الأساقفة الفرنسيين عن الأسف الشديد لمشاهد الاستهزاء من المسيحية في إشارة للوحة العشاء الأخير للسيد المسيح مع تلاميذه، كما شكروا زعماء الطوائف الأخرى -ومنهم المسلمون- على موقفهم بإدانة هذا التجاوز غير المبرر في نظرهم.
عدد من السياسيين المحافظين واليمينيين الفرنسيين أيضاً أدانوا هذا الحفل واعتذروا لجميع مسيحيي العالم عما حدث.. رئيس وزراء المجر فيكتور أوريان اليميني عبّر غاضباً بأن الحفل رؤية ساخرة للتراث المسيحي واصفاً إياه بالخواء الأخلاقي.. رئيس مجلس النواب الأمريكي في الضفة الأخرى قال إنه مهين لكل مسيحيي العالم.. أيلون ماسك أضاف في تغريدة له: إذا لم يكن هناك موقف شجاع عادل ومنصف فإن المسيحية ستضمحل.. وفي تغريدة أخرى قد لا تكون مرتبطة بالحفل وضع صورة الرئيس ترامب مكتفياً بعبارة: أنقذ أطفالنا!..، تجاوز الأمر الإدانات والبيانات أيضاً إلى إيقاف شركة (C Spire) إعلاناتها في الأولمبياد.
بالإضافة إلى السخرية من الموروث الديني المسيحي اكتظ الحفل بشكل غير مسبوق بالمتحولين جنسياً والمثليين خلال ما يقارب الأربع ساعات، كان أكثرها استثارة للملايين من المسيحيين وغيرهم من معارضي المثلية عرض «دراغ كوين» في تجسيد لوحة ليوناردو دافنشي، حيث الرجال يرتدون ملابس نسائية ويضعون المكياج بشكل مقزز.
تذكرت وأنا أشاهد الحفل صديقي الياباني وحديثنا حول متلازمة باريس، التي أظنها بعد هذا الحفل ستتجاوز مسماها لتكون متلازمة فرنسا في ضمائر الكثير من شعوب العالم بما فيهم الفرنسيون أنفسهم الذين لا يتفقون مع هذا الاتجاه الأيديولجي والزج به في احتفال يفترض أنه قُدم لتآلف العالم واحتواء اختلافاتهم.
استذكرت ذلك المساء حديثي في إحدى الزيارات إلى هولندا لتمثيل هيئة الصحفيين السعوديين بعد الرسوم الكاريكاتيرية الساخرة حول الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم قبل سنوات، فقد ذكرت أمام عدد من الصحفيين الهولنديين أننا هنا ليس فقط لاستنكار هذه السخرية من رمز ديني يمثل أكثر من مليار ونصف المليار مسلم، بل لا نقبله على أي رمز يمثل إيمان أي دين أو ملة، وهو المنطق الذي نطبقه في صحافتنا وإعلامنا.
أستذكر تلك النقاشات اليوم وأنا أتابع ردود الأفعال من السياسيين الغربيين الذين انتقدوا التعرض للموروث المسيحي في احتفال افتتاح الأولمبياد وهم أنفسهم أو غالبيتهم الذين لم يعترضوا على انتهاك بعض وسائل الإعلام الغربية -آنذاك- لتلك الكاريكاتيرات الساخرة حين نشرتها بعض الصحف والمجلات الأوروبية؛ في تحدٍّ مبالغ فيه لمواطني دولهم قبل غيرهم الذين يؤمنون بالدين الإسلامي.
اليسار الغربي الذي يعرف يقيناً أن الرياضة ليست مجالاً للشعارات السياسية يدرك أن مسألة المثلية اليوم تحديداً لم تعد خياراً في حدود الحرية الشخصية، بل أجندة سياسية عالية التجاذب والاستقطاب بعد أن أصبحت سياسات عميقة تهدف إلى تدمير الهياكل الاجتماعية المخالفة له وليس محاورتها.
كان ينبغي عدم الزج بهذا الزخم من المثلية في هكذا مناسبة عالمية كافتتاح الأولمبياد، هذا السلوك السياسي اليساري الغربي الذي تجلى في سلوك اليسار الفرنسي في تقديم أمة كاملة هي فرنسا كرمز أوروبي غربي لهذا الاتجاه الأيديولوجي الذي يعلم أصحابه أنهم لا يمثلون صوت الأمة الفرنسية بأجمعها، كان ينبغي له احترام العالم ذلك بطرح وعي وثقافة بالتنوع العالمي احتراماً للأمة الفرنسية نفسها أولاً، ثم للعالم الذي صدم بهذا الزخم غير المسبوق الذي أجزم أنه سيخلق متلازمة جديدة في الضمير الحضاري العالمي هي متلازمة فرنسا التي لن ينسى العالم فيها ما حدث.
أعرف جيداً أن من اختار هذا المشهد الاحتفالي اليساري الذي باركته مؤسسات فكرية ومالية كبرى وجد فرصة تاريخية في فرنسا للاستناد إلى إرث الثورة الفرنسية في صراعها مع الموروث الديني الأوروبي ليستثمر نهر السين في رمزية الماء التي تصور إطلاق الحرية الفردية من جميع عقالاتها أمام العالم في غرس قناعة على صفحة الماء أن لا ثوابت أمام القادم من الحرية... #مختصر_قد_يفيد ... كان العالم بحاجة لهذه المراهقة اليسارية والاندفاع الأهوج لتوحيد الصفوف أكثر؛ فبعض الخطوات المتهورة توقع أصحابها في فخ لا يستطيع خصومهم النيل منهم بدونها، وبالأمس اعتذر المنظمون عن اللبس الذي حدث، لكن ما أفسده اليسار لن يصلحه الاعتذار!.