عبدالوهاب الفايز
الذين شاهدوا ما جرى في حفل افتتاح الأولمبياد هذا الأسبوع قالوا: ربما هذا الذي يراد له أن يتحقق في هذه المناسبة الرياضية العالمية، الإعلان العالمي عن حقوق الشواذ والمتحولين جنسيا!
والليبراليون المتطرفون قالوا صراحة: إنه عالم الحرية والأخوة والمساواة الجديد للشواذ!
أوليمبياد فرنسا نقل الايديولوجيا القادمة إلى قلب الغرب، إلى عاصمة التنوير الجديدة بعد مأسساتها في أمريكا، وتبنيها في منظمات ووكالات الأمم المتحدة. تقديم الحفل بالصورة التي خرج بها، بالذات السخرية من المسيح عليه السلام ووضعه بصورة مسيئة لمقام النبوة وللأنبياء، ووضعه بين الشواذ وعبدة الشيطان في مشهد لوحة العشاء الأخير، هذا العبث الذي قدّم على أنه ذروة الفنون.. لم يكن سوى جنون جلب الاستياء والاهتمام العالمي وخصوصاً الغربي.
اللافت أن أغلب شبكات التواصل والإعلام الكبرى الغربية تجاهلت تماماً ردود الفعل الواسعة على الافتتاح بالذات من الجماعات والمنظمات المحافظة المسيحية، وهذا طبيعي فأغلب هذه المؤسسات تتبنى المسار الليبرالي المتطرف المتحالف مع هذه الأيديولوجية المثلية. وهو من ناحية أخرى يكشف ازدواجية المعايير والنفاق السياسي الغربي، فالجماعات المعترضة على حفل باريس كانت مؤيدة للهجوم على المسلمين، فتحت راية حرية التعبير لم تعترض على حرق القرآن الكريم ونشر الرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
طبعا وبعد الضجة الكبيرة تم حذف حفل الافتتاح في منصات التواصل الاجتماعي!
هذا الحدث العظيم جدد المخاوف من تأثير هذه الأيديولوجية الشيطانيّة على الأطفال والمراهقين، وتجددت المخاوف بعد ظهور الأطفال بين جموع الشواذ في حفل الافتتاح. ومصدر المخاوف يعود لكون الأطفال يتعرضون بشكل واسع للمحتوى في وسائل التواصل الاجتماعي وفي الألعاب الإلكترونية، وهنا يصعب فرض ضوابط الدخول والمشاركة حسب الأعمار، فالتشريعات الوطنية والعالمية مفقودة.. كما هو الحال مع الذكاء الاصطناعي. في أمريكا لم يستجب الكونجرس للمطالبات بفرض قيود على أدوات التواصل الاجتماعي.
في مقال سابق حول (أيديولوجية الشذوذ الجنسي الجديدة.. هل سيتم فرضها؟!)، الجزيرة 26 يوليو 2023، قلنا «أن حركة الشذوذ كبرت وأصبح لها رموزها ومؤسساتها الفكرية والثقافة والإعلامية التي تدافع عنها وتروج لها داخل أمريكا وخارجها، فهذه إذن تُطرح لتكون (الأيديولوجية الجديدة الكونية) البديلة إذ تأكد فشل نموذج الرأسمالية المحدثة (رأسمالية الاستهلاك المفرط)، وأيضًا فشل الديمقراطية الليبرالية الغربية، أي لن تكون هناك نهاية للتاريخ. الآن الرأسمالية والديموقراطية لا يمكن الدفاع عنهما، فحرب أوكرانيا كشفت ازدواجية المعايير الغربية.. والرأسمالية المتوحشة تدمر الأرض وتنشر الفقر في العالم».
ونحن نقول رب ضارة نافعة، فهذا الاهتمام الغربي الذي نراه الآن من المجتمع الأهلي ومن المنظمات الدينية والاجتماعية والخيرية في أوروبا الغربية وأمريكا، ربما يكون القوة الجديدة الداعمة لتطوير المبادرة التي تتطلع إليه مجموعة الدول الإسلامية والعربية وروسيا والصين وبقية المجتمع الدولي لإنشاء تحالف جديد ضد عقيدة الشذوذ. عبر هذا المكان تم طرح هذه الأمنية (هل نقود تجمعاً دولياً جديداً لحماية الأسرة والطفولة والأخلاق؟ الأربعاء 12 يناير 2022). قلنا: «نأمل أن نرى قريبًا ظهور حركة عالمية قوية لـ(عدم الانحطاط) على غرار حركة دول عدم الانحياز التي تأسست في باندونج عام 1955 بعضوية 29 دولة، والتي توسعت خلال الخمسين عامًا من نشاطها ليصل أعضاؤها إلى 116 دولة، وكان لها صوت قوي ومؤثر على الساحة الدولية. الحركة الجديدة الساعية إلى التضامن (ضد تفكيك الأسرة والأخلاق) ضرورية لبقاء الدول والمجتمعات ولبقاء الفطرة الإنسانية السوية. الآن نحن إزاء مواجهة حقيقية يجب التصدي لها وعدم الخوف من دعاتها.»
والحركة التي نتطلع إليها ستكون قوة مضادة داخل منظومة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة لضمان عدم اختطاف قراراتها وبرامجها من قبل الدول والمجموعات الساعية لفرض مبادئها وأفكارها وتصوراتها عن الإنسان ونمط الحياة والكون، وهي أيديولوجيا سوف تأخذنا إلى الانحطاط الأخلاقي وتفكيك المجتمعات والأسرة. ووسائل التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية ميدان انتشارها الأكبر لاستقطاب الشباب والمراهقين إلى عالم وأيديولوجية الشواذ والتحول الجندري. لقد تابع العالم باهتمام ما صرح به (ايلون ماسك) حول فقده لابنه بعد العبث بوعيه من قبل جماعات الصحوة المثلية، وقال انه سوف يقاتل لتدمير فايروس الشذوذ الخطير الذي تقوده الحركة الغربية الصحوية الليبرالية المتطرفة.
في الدول الغربية هناك أصوات كثيرة، بالذات في أمريكا، تطالب بالسيطرة على التواصل الاجتماعي بعد اتضاح أثره الخطير على النشء. من هذه الأصوات ما يقوده جوناثان هايدت Jonathan Haidt، أستاذ القيادة الأخلاقية في كلية شتيرن لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك، والمتخصص في علم النفس الاجتماعي. يرى هايدت أن الهجرة الجماعية للطفولة إلى العالم الافتراضي أدت إلى تعطيل نموهم الاجتماعي والعصبي. ونتج عن هذا اضطراب القلق الاجتماعي، والحرمان من النوم، وتشتت الانتباه، والإدمان. وبعد انزعاجه من معدلات القلق والاكتئاب لدى المراهقين، نشر مؤخرا كتابه الجديد «الجيل القلق» الذي يستكشف عبره الظواهر المتنامية لدى المراهقين وينسبها إلى الانتقال من طفولة تعتمد على اللعب إلى طفولة تعتمد على الهاتف.
في كتابه يروي كيف أن آباء المراهقين في صراع مستمر نتيجة عدم قدرتهم على وضع القواعد وفرض الحدود، التي يتم الالتفاف حولها مما يجعل الحياة الأسرية تعاني نتيجة الخلافات حول التكنولوجيا، وبالتالي صعوبة الحفاظ على العلاقات العائلية الإنسانية الأساسية. يذكر أن الآباء الذي تحدث إليهم يشعرون أنهم فقدوا أطفالهم، والطريقة الوحيدة التي يراها الآباء لإزالة وسائل التواصل الاجتماعي والهاتف الذكي من حياتهم هي الانتقال إلى جزيرة مهجورة.
وبحسب المخاطر التي يراها على الأطفال والمراهقين أصبح هايدت من العلماء الناشطين في التحذير من الآثار النفسية المدمرة للمحتوى السيئ في التواصل الاجتماعي، ويأسف لتجاهل الكونجرس الأمريكي ضرورة فرض التشريعات التي تمنع الشركات من السماح للأطفال دون سن الأربعة عشر عاما من الدخول إلى المنصات.
لقد جددت عروض افتتاح أوليمبياد باريس المخاوف من توجهات الأيديولوجيات والأفكار المتطرفة سواء من اليسار أو اليمين. وأول ضحاياها هم الشباب والمجتمعات ومعهم بعض الكبار الذين زاغت قلوبهم وأبصارهم. والأخطر أن أيديلوجية الشذوذ الجنسي يراد لها أن تتخطى الحدود وتتعدى على سيادة الدول. لذا فإن المجتمعات منفردة لا يمكن أن تقاومها. العمل الجماعي المنظم عبر مؤسسات المجتمع المدني والأهلي، سواء المحلية والإقليمية، هي الخيارات السريعة المتاحة والضرورية في جهود المواجهة والمكافحة لهذا الفيروس الخطير. هل يتم تفعيلها وتبنيها؟