د. عبدالحق عزوزي
الحديث عن أي إصلاح فكري أو مؤسساتي أو مذهبي لا يمكن أن يتم إلا إذا كان المجتهد المصلح يتوفر على نظارات استراتيجية وذا بعد نظر ينطلق من الأصول ليسبر بها ظروف الأزمنة والأمكنة، ومن ادعى غير ذلك فهو مقلد لا يمكن أن يكون لعمله نصيب في صفحات التاريخ التي لا تقبل إلا من أبدع وأجاد، ونظر وأفاد... ولا يظنن ظان عندما يسمع عن ضرورة الإصلاح الديني أو التجديدي في الخطاب الديني أو في الفكر الديني أنه يجب استبدال الإسلام بدين آخر أو يجب أن نقوم بإقالة أحكامه الثابتة القطعية أو صناعة قواعد في الفهم أو التطبيق مخالفة للقرآن؛ فالعلماء الحقيقيون الذين تصدوا لمسألة التجديد والإصلاح في الفكر الديني أو في السلوك أو في الخطاب في العصور الآزفة القريبة، فإنهم تناولوها من ضرورة التكيف مع العصر في تثبيت لمعادلة التأصيل مع التجديد، وهذا التأصيل يكون برد الشريعة السمحة التي أتت بالوسطية والاعتدال، ودعت إلى التفكر واستخدام العقل، وإلى الاستنباط والاجتهاد، إلى مقاصدها وإلى مستلزماتها مع مسايرة ضروريات العصر. فالإصلاح والتجديد هو الإحياء والتفعيل. والله سبحانه وتعالى ما بعث رسله ولا أنزل كتبه إلا لإحياء الأنفس ودفعها إلى البر والصلاح. إن العلوم الإسلامية دلفت نحو قُطب التقليد كما يكتب ذلك بحق زميلنا العلامة أحمد العبادي، حينَ مُورست على الإنسان المسلم مجموعة من الضغوط والتقليصات المعنوية والمادية. فحين استُبدل واقع «قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك» (الذي كان يُمارس في الصدر الأول حين قال عمر بن الخطاب هذه الجملة الرائعة لعبد الله بن عباس وكان فتى ساعتئذ)، بواقع مختلف، واقع «صه! واخرس قاتلك الله!»، بدأنا نرى بعض العلماء يتبوّأون مقامات فيها من الإطلاق والكليانية ودعوى امتلاك الحقائق ما قلص من الهوامش النقدية، وضيّق من مجالات الاجتهاد، كما أدّى إلى ظهور أنماطٍ من التبعية تحت دعوى القداسة في بعض الأحيان.
كما أن هناك إشكالا نجده منسابا في كل فصول تاريخنا العلمي والمعرفي، وهو المتعلق بقضية الثابت والمتحول، فحين لم نستثمر الجهد المطلوب واللازم في هذه القضية، وتركناها منتثرة في كتب النابغين من علماء الأمة دون جمع، وحين لم تُتَلَقّ الإشارات الكثيرة الموجودة في القرآن والسنة إلى هذه القضية فبقيت غير بينة المعالم؛ حصلت مشاكل كثيرة..
ولعمري أن هذه العوائق، كما أبرزتها مؤخرا في بعض الكتابات، حين استحكمت صيّرت العلومَ الإسلامية كما استقرت بعدُ، في غير قليل من مناحيها وأبوابها تضيق مناهجها دون الاجتهاد والإبداع.. ثم إن العلوم الإسلامية في فترة تأسيسها كانت عبارة عن حوار مع الوحي (النص المؤَسِّس) للاتصال الوثيق والمبدئي معه، وهذا الحوار كان يُعطي بالفعل القابلية لاكتشاف مجموعة من الآفاق، ويكون ذلك استنادا على استثمار المعطيات الموجودة، واستنادا على المقاربة الآياتية للوحي وللكون، استضاءة بالإشارات النبوية المنيرة الموجودة في السنة النبوية المطهّرة... ممّا جعل هذا الحوار في الفترة الأولى يُولِّد مجموعة من المعارف، ولكن حين كَفَّ الحوار، بقينا منحسرين فيما أنجز خلال تلك الفترات الوضيئة الأولى، دون البناء على مكتسباتها، وإنه ليتعيّن على المسلمين اليوم استئناف هذا الحوار.
ففي الجانب الكوني، لو أن الحوارَ مع الكون كَفَّ لما استطعت أن ترى الآن السبرنتيقا، ولا كل هذه المعارف الطبية التي تمكِّن من إشفاء مجموعة من الأدواء. ولو كَفَّ الحوارُ في الجانب الفيزيائي مع الكون لما استطاع الإنسان أن يطيرَ ولا أن يستكشف الفضاء. ولو أن هذا الحوار كَفَّ في الجوانب الرياضية والتقنية لما استطاع الإنسان أن يتوفر على هذه الأداة الرقمية التي تُيسِّر أمامه مجموعة من الأمور، وتمكنه من قضاء جملة من المآرب... إننا بحاجة إلى إحداث مناهج جديدة لتحقيق ثقافة النحل في الإنتاج والإبداع، وهاته المناهج هي التي ستمكننا من التدبر والفهم الحقيقي للنص المؤسس، القرآن الكريم الذي جعله الله نورا وضياء للعالمين إلى أن تقوم الساعة.