د. تنيضب الفايدي
عرفت المنطقة الشرقية بتاريخها الموغل في القدم، حيث وجدت دلائل تشعر إلى الاستيطان البشري في المنطقة من العصور الحجرية وتعددت المواقع التي وجدت بها تلك الدلائل، كما شهدت المنطقة - التي كانت تُعرف بالبحرين- عدة حضارات ويدل على ذلك عدة مواقع بالمنطقة الشرقية مثل تاروت، دارين وجواثا، ودخلها الإسلام مبكراً، حيث إن مسجد جواثا من المساجد الأولى أسست في العام الأول الهجري، كما اشتهرت أسواقها ولاسيما سوق حجر، كالأسواق الأخرى مثل سوق هجر وسوق عكاظ وسوق النطاة بخيبر وسوق دومة الجندل وسوق تيماء، كما ازدهر بها الأدب شعراً ونثراً، وما يوجد بالمنطقة يساهم مساهمة فاعلة في تنمية الوعي المتزايد بالآثار والاهتمام بها وضرورة المحافظة عليها، وقد كتب عن بعضها مثل دارين، يبرين، الأحقاف، وغيرها من المواقع في المنطقة الشرقية.
والموقع الذي نحن فيه اليوم من المنطقة الشرقية وهو موقع ثاج وتقع ثاج بالمنطقة الشرقية من الوطن الغالي على بعد 90 كم تقريباً عن مدينة الجبيل، وعلى بعد 140 كم تقريباً إلى الشمال الغربي عن مدينة الظهران، وعلى بعد 280 كم عن مدينة الدمام تقريباً، وتعتبر أكبر وأغنى موقع في الآثار معروف حتى الآن، حيث كانت ثاج في يوم من الأيام أحد المراكز الحضارية في الجزيرة العربية، كان ذلك بفضل موقعها الإستراتيجي الذي تميزت به لتوسطها بين الحضارات القديمة التي برزت في وادي الرافدين شمالاً، وفي الهند والسند وفارس شرقاً، وفي اليمن جنوباً، بالإضافة إلى إشرافها على جزء كبير من ساحل الخليج، الأمر الذي جعلها تلعب دوراً هاماً في الاتصالات البشرية والتجارية بين شعوب تلك الحضارات منذ أكثر من عشرة آلاف سنة وتعد ثاج واحدة من أهم مراكز العمران في الأزمنة السابقة، تدل الدلائل على أن الاستيطان في ثاج قديم، حيث استوطنت خلال عصور ما قبل التاريخ وكان السبب هو توفر البيئة الجيدة المحيطة بها بالمياه الموسمية والجوفية ووفرة المراعي لقطعان الماشية وتتمركز ثاج في قلب صحراء عبورها أمر لا بد منه لمن يريد شرقي الجزيرة العربية من وسطها أو من يريد وسطها من شرقيها. ويحتل موقع ثاج الطرف الصحراوي من وادي المياه المعروف في المصادر بوادي الستار، وكان هذا الوادي غنياً بالمياه والمراعي الخصبة التي تؤمها قبائل العرب. يضم موقع ثاج الثري بقايا مدينة متكاملة يحيط بها سور خارجي، بينما توجد بقايا عدد من المباني المعمارية المتناثرة خارج أسوار المدينة، ويتكون المخطط المبدئي لمدينة ثاج الأثرية من مدينة مسورة، يأخذ سورها الخارجي هيئة مربع غير منتظم يبلغ طوله 2535 متراً، بينما يصل سمك جداره نحو 4 أمتار ونصف، وقد دعم جدار السور من الخارج بأبراج مربعة، ويضم وسط المدينة مجموعة من التلال الأثرية الكبيرة يمكن تمييز جدران بعض المباني السكنية تفصل بينها شوارع داخلية. أما خارج أسوار المدينة فتوجد في أطرافها الجنوبية والشرقية مجموعة متناثرة من التلال الأثرية التراكمية وتوجد أساسات مبان كبيرة الحجم منفصلة عن المدينة، وبالقرب من هذه المباني توجد مجموعة من المدافن القديمة (القبور) جرى تحديد 20 مدفناً منها. كما وجدت آبار كثيرة داخل السور الأثري وخارجها، وقد جاء مدينة ثاج في الشعر كثيراً حيث أورد الحموي أبياتاً ذكرت فيها مدينة ثاج:
يا جارَتَيَّ، على ثاج سبيلكما
سيراً شديداً، ألمَا تعْلَمَا خبري
إني أقيّد بالمأثور راحلتي
ولا أبالي ولو كنا على سفر
وقال عرفطة بن عبد الله المالكي ثم الأسدي:
لقد كنت أشقى بالغرام فشاقني
بليلي على بنيان حمل مقدّر
فقلت وقد زال النهار كوارع
من الثاج، أو من نخل يثرب موقّر
وذكر ذو الرمة ثاج أيضاً:
نحاها لثاج نحوه ثم
توخى بها العينين عيني متالع
وعلى بعد حوالي 1كم من ثاج في الجهة الجنوبية والجنوبية الشرقية توجد تلال ركامية ذات قمم مستديرة تنتشر على مساحة كبيرة يمكن مقارنتها بتلال المدافن في كل من الظهران والبحرين.
ويبدو أن سكان ثاج قد امتهنوا صناعة الأواني الفخارية، حيث توحي تلال النفايات التي تقع في الجهة الجنوبية الغربية والجهة الشرقية خارج السور الأثري بذلك استدلالاً بكميات الرماد الكبيرة ووجود كميات من أجزاء الأواني الفخارية التي تغير شكلها قبل أن تجف أو أثناء شوائها، مما جعل الصانع يستغني عنها ويلقيها في تلك التلال، وهذه الظاهرة تؤكد قيام صناعة للفخار في ثاج وأن هناك أفراناً خاصة بتلك الصناعة، ولعل أعمالاً مستقبلية في الموقع تكشف لنا شيئاً من هذا.
وقد قامت البعثة الدنماركية عام 1968م أول الأعمال الميدانية على الإطلاق في ثاج، وكان هدفها تحديد العمر الزمني للاستيطان في ثاج، وقد توصلت البعثة من خلال أعمال التنقيب والدراسة إلى أنه من الممكن تاريخ الموقع الفترة ما بين 300 ق.م حتى 100م .
وفي عام 1419هـ قام فريق من وكالة الآثار والمتاحف بإجراء حفرية إنقاذية نتج عنها العثور على مدفن لفتاة ووجد معها بعض التماثيل واللقى الفخارية والحلي وأرخت بفترة القرن الأول والثاني الميلادي.
كما تدل مساحة المنطقة السكنية الواقعة داخل السور الأثري وخارجه، وكذلك المساحة الكبيرة التي تشغلها تلال المدافن إلى جانب الآبار الكثيرة على أنه كان هناك تجمع سكاني كبير في ثاج، مما يشير إلى أن سكانه قد امتهنوا إلى جانب التجارة بعض النشاطات الأخرى، ومنها الزراعة، فقد حفروا بعض الآبار خارج المنطقة السكنية المسورة، خصوصاً في الجهتين الشرقية والجنوبية، وربما استغلت المساحات الموجودة في تلك الجهتين لأغراض الزراعة، ولم يكن النشاط التجاري هو المهنة الوحيدة لسكان ثاج، بل إن بعضهم عمل في الصناعة، كصناعة الأواني الفخارية التي راجت تجارتها في ذلك الوقت، وتمثل المعثورات مزيجاً حضارياً ناتجاً عن تأثيرات الحضارات المجاورة لها، والتي تربطها معها علاقات تجارية كحضارات جنوب الجزيرة العربية ووسطها، وشمالها الغربي، وجنوبها الشرقي والحضارة السلوقية والساسانية وغيرها.
وتشير الدلائل الأثرية كالعملات والدمى الفخارية والمباخر إلى نواحٍ دينية كانت موجودة في ثاج، تؤكد أن السكان قد تعبدوا للمعبود «شمس» وربما القمر والزهرة، وأنهم قدموا لها القرابين والهدايا، وحرقوا البخور لها في المعابد، مما يؤكد وجود معابد في ثاج لم يتم الكشف عنها بعد.
ويوجد في ثاج عدداً من الآبار القديمة بعضها داخل السور والبعض الآخر خارجه، بنيت من حجارة مشابهة لأحجار البناء في المنطقة السكنية الواقعة داخل السور الأثري. وفي عام 1998م عثر فريق من علماء الآثار السعوديين أثناء التنقيب في ثاج حجرة جنائزية، فيها ذهب وعقود ولؤلؤ وقرابين جنائزية أخرى ثمينة.
هذه معلومات رصدت عن ثاج ليطلع عليها أبناء الجيل الحالي من بنين وبنات؛ لأنـها جوهرة من جواهر الوطن.
المراجع: معجم البلدان للحموي، آثار منطقة الشرقية، صيد الذاكرة للدكتور تنيضب الفايدي، ثاج دراسة أثرية ميدانية، موسوعة طرق التجارة القديمة.