د.نادية هناوي
كان من نتائج التطور المعرفي في عصرنا الراهن أن غدت الحدود التي تفصل بين الحضارات والثقافات أو بين العلوم والفنون والآداب على اختلافها وتنوع ميادينها متلاشية أو مفتوحة أو متداخلة أو مخترقة، تجسيداً لما تشهده حياتنا من اتجاه سريع نحو الاندماج، حيث لا حدود قطعية أو حواجز نهائية بينها، فكل شيء سائر نحو التمييع كتجلٍ من تجليات ما بعد الحداثة، وكاستتباع للعولمة انصياعاً لمتطلباتها وامتثالاً لمواضعاتها على السواء، ومن ثم لا وجود لما هو نهائي أو حدي أو قطعي أو أحادي.
لقد انجلت الفواصل وتداخلت الأطر حتى شمل الانفتاح في الرؤية ميادين الحياة كلها. وهذا ما يستطيع أن يمثله جنس أدبي قادر على صهر الأنواع أو الأجناس السردية في قالبه والعبور عليها ضمن جدلية استجماعية صاهرة فيها تتحقق عملية العبور الأجناسي. والرواية واحدة من الأجناس العابرة لأنواع سردية مختلفة كالسيرة الذاتية والرواية النفسية أو الرواية الفلسفية أو رواية منفى أو رواية تيار الوعي، وقد تدمج معها جنساً أو أكثر كالقصة القصيرة وقصيدة النثر وربما أشكالاً فنية أخرى على شاكلة التعالق مع الشعر والتشكيل والسينما والموسيقى.
وما يجعل الرواية عابرة للأجناس ليس إمكانياتها الفنية في التخطي والصهر والتذويب توالياً وتعاقباً شاقولياً وخطياً فحسب، بل مدياتها الفنية في معالجة الثيمات والتعامل معها بالاستنهاض والتثوير والقلب والتبئير. والهوية إحدى تلك الثيمات التي بإمكان الرواية العابرة أن تستثمر ما لديها من آليات وتقانات في تمثيل مختلف الرؤى والتصورات التي تنطوي عليها الهوية كإشكالية فكرية، عنها تتفرع تعقيدات الأنا والكينونة وتضادات الذات والآخر وقد تلونت مساربها وتعددت تضارباتها.
هذا على مستوى السرد اما على مستوى نقد الرواية، فإن التغاير في المنهجيات ساعد في بيان أشكال الهويات وتمثيلاتها الروائية التي أخذت بالتوسع بشكل كبير تحت مسمى سرديات الهوية، وفيها المجموع هو الفرد وبالعكس، كالبيضة والدجاجة بتشبيه كارول فيلشر فيلدمان التي وجدت في هذه السرديات أدوات تسبر واقع الجماعة، وتكشف في الوقت نفسه طريقة تفكير كل عضو، أو بالأحرى قصته سواء أكانت نمطية أم سيرية أم ذهنية. أما العالم فهو كما يقول زيجمونت باومان (عبارة عن مسرحية نلعب فيها جميعنا على خشبة المسرح في آن معاً أو فترات متقطعة دور القطع الإضافية وأدوات التمثيل والممثلين الاحتياطيين).
ولا خلاف في أنّ الرواية لا يهمها الفرد في فرديته فحسب بل الفرد أيضاً في المجموع الكلي، والهدف ليس بلوغ اليوتوبيا بالمفهوم الذي طرحه السير توماس مور؛ بل هو ما يرتبط بالواقع الذي يجعل الانسان فريسة الاغتراب المكاني والتهميش الحياتي والإحباط النفسي والقهر الاجتماعي، وهذا التضاد أو التفاوت بين النزعتين الفردية والجماعية هو الذي يبقي الهوية متبدلة دائماً في سيرورة إنسانية غير مستقرة، وعالم قلق تتنازعه قوى الاستهلاك والإنتاج، ولم تعد تحكمه أقطاب متربولية بعد أن حلت محلها التعددية الثقافية وسادت النزعة الكوزموبولتية، وأصبح الإنسان كما يقول روجيه غارودي (يعيش حياة جامعة تجعل من حدوث انهيار في سوق الأوراق المالية في نيويورك أو انعقاد مؤتمر في موسكو أو قيام إضراب في اسبانيا مسائل شخصية تهمه.. وهو يشارك في الحركة الشاملة للكون ولتاريخه).
ومن جراء ذلك كله تعددت الهويات وبالمقابل صارت الرواية عابرة للأجناس وبفضاءات أكثر تعدداً وتمثيلاً، معبرة عن المخاوف والهموم والضغائن الجماعية التي فيها يرتبط الفرد بالمجموع اجتماعياً وينفصل عنه وجوديا كما تتماهى الأطراف في المركز الذي لم يعد محورياً، فلقد تميعت سلطته وذابت هيمنته بلا حتميات أو محددات.
ومن حسنات هذا الوضع أن مركزيات الحداثة وأفكارها الاستعمارية تلاشت بعد أن تفككت أواصرها بروابط لا نهائية أضفت على النزعة الفردية مزيداً من القلق والخطر والتيهان. وهذا بالضبط هو الوضع الإنساني الجديد.
إن الهوية هي التمثيل الفني الذي فيه تتجسد كينونة الإنسان كهيئة منسجمة متسقة وقوية أو بالعكس هيئة لا شكل لها هشة باهتة مضطربة.
ولئن كانت الهوية كذلك؛ فإن من الطبيعي إذن أن يكون لكل فرد طريقته الذاتية في محايثة الوجود داخلياً وخارجياً، وبذلك يتشكل شعوره بكينونته وقد تصالحت تاريخياً مع الماضي وتكيفت نفسياً مع الحاضر واطمأنت إلى ما سيكون عليه المستقبل.
هذه النسقية الحياتية قد تبدو معقولة في المرحلتين الكلاسيكية والحداثية، بيد أنها عسيرة التحقق أو بالأحرى غير معقولة في هذه المرحلة التي فيها تواجه البشرية تحديات شتى تنعكس على مختلف شؤون الحياة، ومنها الشأن الاجتماعي الذي فيه اكتساب الهوية هو أهم التحديات وأكثرها تناقضا بالاكتمال والتدمير.
وبسبب ذلك تتجه الرواية بكل إمكانياتها العابرة إلى تجسيد الوضع الجديد للإنسان معبرة عن مفارقة الشعور بالهوية ما بين التضاد والتأرجح والتنوع تفرداً واجتماعاً، والتذبذب مكانياً وزمانياً، والانقلاب ذاتياً وموضوعياً وبما يجعل كينونة الذات في وضع مرن دائم التحرك والتبدل، فتتغير باستمرار ، متحررة ومستقلة لكن من دون انفلات. فالهوية ليست رهناً بقضايا الصراع بين الشرق والغرب والوطن والمنفى والهجرة والانتماء فحسب، وإنما هي أوسع من ذلك بكثير كونها تجمع بين إحساس الفرد بنفسه داخلياً وبين موقفه منها خارجياً. ومن ثم تغدو هويته رهينة الداخل والخارج نفسياً واجتماعياً، فيشترك مع ما حوله اشتراكاً فيه نفي ووجود، وهيمنة واتباع.
وليس الفرد المعاصر سوى كيان منفي مع أنه حاضر، ومهاجر وغير مهاجر، مستقطب ومطرود، مستقر ولاجئ، منتم وغير منتم، راسخ ونازح، تتقولب هويته خارج المفهوم النمطي للهوية فتصبح متعددة في مجالاتها ومتبدلة في احتمالاتها بعد أن شاعت العولمة واتسع نطاقها السبراني، فتولدت رؤى وتصورات جديدة لا تخلو من تضاد واصطراع وتوافق وتنازع واستثمار واستئثار وتعددية بحسب ديمغرافية التعايش الاجتماعي والتنوع الثقافي، لتبدو ممزوجة في صورة ثقافية تتشرب اختلافاتها الفردية في هيئة جماعية تضم الأفراد المتأقلمين واقعياً، وإن اختلفت خصوصياتهم وتباعدت أحلامهم. وهو ما تجسده الرواية بعبورها الأجناسي مبدأ ونظاماً، فالرواية لا تستعرض أو تتطلع أو تتعاطى مع التصورات والرؤى؛ وإنما هي تحورها لتتماشى معها.