د. إبراهيم بن جلال فضلون
من عزاءات الفلسفة فكرة الـ«ما بعد»، وربما ظننا أنه بفضل عقولنا تغلبنا على الواقع المُعاش، وتحكمنا في عالمنا الحديث والمُستقبلي للأفضل، وبتنا اليوم نعيش أعماراً أطول مما عاش آباؤنا وأسلافنا منذ فجر التاريخ، عبر الذكاء الاصطناعي الذي أهال إسرائيل وأنظمتها الأوروبية الحديثة في طوفان الأقصى السابع من أكتوبر الماضي، ولكن ربما أن ظننا ليس في محله، فمن ينظر بدقة وبصيرة إلى مُجريات حياتنا وما يتحرك بلحظاته في خرائط العالم الآن، سوف يتأكد أن عالمنا القديم بات يتآكل برمته، ليعود الإنسان لما كان عليه في العصور السالفة قبل الحرب العالمية الأولى والثانية، والباردة، وغيرها، ومما يعزز الاعتقاد بأن البشر بلغوا من العُمر عتياً بتلك العقول النهمة للحياة الفانية أن غاية أعمارهم فقط كانت فاقدة الشهية للذة الحياة التي خلقنا الله لها لنعبدهُ، لا لنتلاعب فيها ولنُغير خلق الله في الأرض، كما صار بتلاعب الجينات والاستنساخ في حبور موت (النعجة دولي)، ما يشيع من اعتقادات خاطئة عن القدماء، لكن حتى لو لم تتغير الطريقة الفكرية للبشر بشكل كبير عبر العصور، فإن هذا لا يقلل من الجهود الهائلة التي بذلت لرفاهية الإنسان ومسيرته العلمية التي استخدمها الكثيرون في ما هو ضد البشرية، خلال العقود الأخيرة، فصار فيها عالمنا كغابة موحشة لا قائد لها ولا رابط ولا رادع في تحدٍّ للغيب، فلا القواعد تُطبق، ولا القوانين تنفذ، ولا للضمائر ضمير، ولا للقلوب مصير، ولا للعقول قويم، فاتسعت رقعة الحروب المتتالية، لتأكل ما يصنعه ذلك الإنسان، وتحرقهُ بما فعل وأتى..
ويعزي البشرية وإن كان واقعهم قاسياً أو يُنذر تحولاتهم البائسة لحياتهم الأكثر ظلمة في تاريخهم، كامتداد تاريخي للشر وإرث قديم بدليل الصراع الدموي الذي بات بلا رحمة في غزة، منفصلاً عن شكله الإنساني القويم، مُتخلياً -في الوقت نفسه- عن أجل ميزاته الاستثنائية وأعظم مظاهر التكريم الإلهي له عن سائر الحيوات، ليصلوا لقمة الوصف (الحيوانات البشرية)، في غابة الإنسانية المفقودة، كـ«امرأة لعوب»، وإذا ما استسلمنا لفكرة أن الحروب قدر أو واقع لا مفر منه، وسألنا عبثاً ماذا بعد الحرب؟ والمسار المأساوي والجحيم الذي تساق إليه البشرية قسراً كل يوم؟ بسبب فئة قليلة ونحنُ أُمة أعزها الله بالإسلام مليارية القلوب ولو بالدعوات، أين هي؟، لتتكالب علينا حبارير الأُمم بثكناتها العسكرية العفنة والاقتصادية الخربة، فماذا بعد صور النزوح المؤلمة لأهالينا وأبنائنا وأخواتنا وأمهاتنا وأطفالنا الجوعى والمشردين والمفقودين ممن لا يجدون راحة الوطن، ليعيشوا بلا حياة، فما يأتي من رئيس أمريكي أو يبقى إلا وهو خراب عليهم وعلينا، فكُلُهم لا حياة ولا أمان بين عقولهم، التي لا ولن ترتضي إلا هلاكنا، فروسيا الآن تشكو من التدخل الشامل من الغرب الأوروبي - الأميركي، بجارتها أوكرانيا، وجدت نفسها تخوض حرباً، ليست تنتمي إلى مفهوم الحرب، وأبرياء فلسطين أُجبروا على الدفاع عن وطنهم المنهوب من تلك الفئة الضالة المُضللة، كأي أحرار في أوطاننا، استشهدوا لأجل تحرير وطنهم الغالي، ليجد الغرب الأمريكي نفسهُ أمام المارد البشري الذي كشف نواياهم، وليجدوا العقول بحراً وبراً وجواً وفضاءً في العالم، في رسالة حرب مفتوحة مستعرة، كما في السودان، منذ منتصف إبريل الماضي، وما زالت ساحة للقوى نفسها، منتظرة أن تختمر عجينتها لحروب أوسع..
وأخيراً: إنها سياستهم الحالية في غزة، كما هي في أقاليم مُسلمي الهند والصين وغيرهما، لنُصبح أمام مفهوم جديد بعنوان: «الحرب للحرب»، وكأنهُ فن للقتل قتلة للأبرياء والإنسانية. بوصفها أداة من أدوات السياسة، صورتها مفهوم حروب من دون ضفاف، أو حروب منسية!، إنها حروب غزة التي تقبع في قلوب مليارات من المسلمين، ولم ينساها قادتنا، جمعهم الله لخيرها.. أمين.