اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
عمد الكيان الصهيوني منذ نشأته على أرض فلسطين إلى تبني إستراتيجية مفادها كسر حاجز العزلة المحيط بهذا الكيان، محاولاً تحييد الدول المحيطة بالوطن العربي وكسب ما يمكن كسبه منها مع البحث عن دول خارج إطاره الإقليمي يستطيع من خلالها تطويق الدول العربية واتباع سياسة شد الأطراف تجاه الوطن العربي.
وأول من نادى بسياسة شد الأطراف وكسر العزلة المحيطة بالكيان الصهيوني بينه وبين محيطه غير العربي هو روبين شيلواه أحد رؤساء الموساد الذي رأى أن هناك دولاً تشارك الدولة العبرية في عداوتها للعرب، وتضيق ذرعاً من أي تحالفات عربية والتقرب من هذه الدول المعادية للعرب والتحالف معها يعتبر ضرورة لشد أطراف الوطن العربي وتفويت الفرصة على أية وحدة عربية.
وقد طور بن قوريون هذه الإستراتيجية، مؤكداً أن منطقة الشرق الأوسط يوجد فيها قوميات غير عربية، يمكن استغلالها لإيجاد تحالفات إقليمية معادية للعرب تكون كفيلة بتصدع الجبهة العربية وانهيارها مع استخدام هذه التحالفات لمصلحة الدولة اليهودية في الزمان والمكان المناسبين.
وضعف الانتماءات الدينية والقومية والوطنية والصراعات الداخلية والخلافات البينية أضعفت الأمن القومي العربي بالنسبة للأمة العربية التي أصبح بعض دولها ممزقاً بسبب عوامل الضعف الداخلية والتدخلات الخارجية، الأمر الذي ترتب عليه وجود عوامل مغرية للقوى الإقليمية المحيطة بالوطن العربي لمحاولة جذب أطرافه وهز كيانه وخلخلة بنيانه، تنفيذاً لإستراتيجية شد الأطراف التي رسمتها الحركة الصهيونية والقوى الاستعمارية.
وتأسيساً على ذلك فإن القوى الاستعمارية تلتقي مع الكيان الصهيوني في أهدافه الخبيثة بما في ذلك الرغبة في وجود شرق أوسط غير مستقر يتكون من كيانات خاملة ودويلات فاشلة، فاقدة انتماءاتها ومنشغلة بصراعاتها وتقاتل على عدة جبهات ضد بعضها البعض في بيئة موبوءة تسيطر عليها النزاعات والخلافات.
وقد وجد الكيان الصهيوني ضالته في وجود دول محيطة بالوطن العربي ذات مشاريع قومية وأهداف جيوسياسية في المنطقة، معتبراً إياها تمثِّل أضلاع مثلث إستراتيجية شد الأطراف بالنسبة للوطن العربي المغلوب على أمره، وهذه الدول هي إيران وتركيا وإثيوبيا التي تنطلق عداوتها من مشاريعها القومية وأطماعها التوسعية فضلاً عن التجاور البري والبحري الذي يعد مصدراً من مصادر العداوة.
وما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية والدول المتحالفة معها في العراق وسوريا، وما يُعرف بثورات الربيع العربي، وما تفعله الآن في فلسطين والبحر الأحمر ما هو إلا حلقة من سلسلة إيجاد الذرائع وارتكاب الفظائع والتواطؤ مع الطرف الجاذب ضد الطرف المجذوب لإعادة تقسيم المنطقة وتحويل دولها إلى كيانات هزيلة لا يجمع بينها انتماء ولا تحمي لها حمى، تقبع تحت مظلة الكيان الصهيوني ضمن ما يُعرف بمخطط الشرق الأوسط الجديد. والدولة العبرية باعتبارها تمثّل النقطة المرجعية بالنسبة لإستراتيجية شد الأطراف والمحور الذي تتمحور حوله جميع نشاطاتها وأهدافها، وهي التي وضعتها والمستفيد الأول منها، فإنها اتخذت هذه الإستراتيجية وسيلة لتحقيق أهدافها وتنفيذ مخططها التوسعي وتجاهل الحلول السلمية، تطلعاً إلى ما يُعرف بالدولة اليهودية الكبرى.
ورغم العداوة الصورية المعلنة بين إيران والكيان الصهيوني فإن بينهما اتفاقات سرية وتخادم مصالح، ولكل منهما مشروعه القومي الخاص به الذي يخدم مصالحه القومية وأهدافه الجيوسياسية تحت مظلة المشروع الأمريكي، وذلك على حساب الوطن العربي الذي تكالب عليه الأعداء من الداخل والخارج ومن كل حدب وصوب وأصبح قاب قوسين أو أدنى من إعادة التقسيم.
ودعوة إيران إلى المذهبية والطائفية وتصدير ثورتها مكَّنتها من إيجاد وكلاء وأذرع لها في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما نجم عنه إضعاف هذه الدول وتشظِّيها من الداخل وانهيار عناصر القوة فيها، وما آل إليه هذا الأمر من نجاح إستراتيجية الكيان الصهيوني لشد الأطراف، وخلق بيئة صالحة للفتن والخلاف.
وتركيا هي الضلع الثاني من أضلاع عملية شد الأطراف على حساب الوطن العربي وساهمت في خدمة الكيان الصهيوني عن طريق مشروعها القومي وأهدافها الجيوسياسية، حيث تحتل بعض الأراضي السورية وتنتهك السيادة العراقية وتبحث عن موطئ قدم لها في ليبيا والصومال وغايتها تبرر وسيلتها.
وتمثِّل إثيوبيا ضلع المثلث الثالث من إستراتيجية شد الأطراف ضد الوطن العربي لصالح الكيان الصهيوني وسد النهضة وتأثيراته السلبية على مصر والسودان خير شاهد على ذلك بالإضافة إلى دورها في القرن الإفريقي الذي سوف تتربص بالأمة العربية شراً من خلاله.
وإستراتيجية شد الأطراف بدأت تأخذ طريقها نحو بلوغ أهدافها وسيطرة أطرافها، وصار مثلث تطويق الوطن العربي ينفذ على أرض الواقع نظراً لأن الأوضاع في كثير من الدول العربية بعد ما يعرف بالربيع العربي أصبحت مهيأة لنجاح إستراتيجية شد الأطراف في ظل أوضاع العرب الداخلية وخلافاتهم البينية.
ومن الواضح أن إستراتيجية شد الأطراف أصبحت مكتملة الأركان وماثلة للعيان بعد أن حققت معظم أهدافها وتبلورت في الصورة أمام المشاهد أوصافها نتيجة لنجاح أعداء الخارج في تحريك بواعث الشر والنوازع الشيطانية في الجماعات المذهبية والمليشيات الطائفية والتنظيمات الإرهابية في داخل الدول العربية وفي محيطها، وتأليبهم ضد دولهم للتمرد على قياداتها والتخلي عن انتماءاتها وتحويل دولها إلى دويلات فاشلة لا تمتلك الإرادة وليس لها سيادة كما هو الحال في عدد من الدول العربية.
وواقع العالم العربي المتسيِّب والقرار المغيَّب والنزعة الصهيونية ومحور إيران لاختلاق الذرائع وفتح الباب لارتكاب الفظائع، كل ذلك ينذر بتطور الصراع الحالي في المنطقة العربية على نحو يتخذ معه التصعيد بعداً حقيقياً من أبعاد سياسة شد الأطراف، وما يعنيه ذلك من اتساع رقعة الحرب وعدم التمييز بين أهداف القوة وأهداف القيمة.
وفي هذا الوقت الحرج الذي تجاوزت فيه الأمور مرحلة الاستعداد وأصبحت اليد على الزناد يتحتم على الدول العربية الفاعلة ذات السيادة الكاملة أن تكون عناصر قوتها الوطنية في حالة جهوزية شاملة وأن تكون قوتها العسكرية والأمنية شغلها الشاغل ومحل اهتمامها الكامل، تحسباً لمواجهة الأمر القادم الذي نعيش إرهاصاته وتظهر في الأفق علاماته والمكلف بجذب الأجزاء من الشرق ليس بينه وبين الكيان الصهيوني فرق.