د.عبدالله بن موسى الطاير
بعد كل حرب مدمرة يفيق العقلاء على أطلال مالطا لوضع ترتيبات تحول دون تشكل الظروف التي أدت إلى الحرب والخراب والدمار، وللحيلولة دون قيام حرب أخرى، وكانت معاهدة ويستفاليا، التي تم توقيعها في عام 1648م إحدى صحوات العقلاء والحكماء وبمثابة نقطة تحول في التاريخ الأوروبي بعد حرب الثلاثين عاما، ثم جاءت بعد ذلك عصبة الأمم المتحدة، فالأمم المتحدة عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية.
أنهت معاهدة ويتفاليا للسلام سلسلة من الحروب المدمرة في القارة الأوروبية دارت رحاها على مدى ثلاثين عامًا (1618 - 1648م) في أوروبا الوسطى بشكل أساس، وشاركت فيها أغلب القوى القارية الكبرى حينئذ. بدأت الحرب كصراع ديني بين البروتستانت والكاثوليك داخل الإمبراطورية الرومانية، لكنها تطورت تدريجيًا إلى صراع أوسع نطاقًا من أجل السلطة والأراض في مناخ سياسي أدى إلى تلك اللحظة المحورية من الصراع الديني وعدم الاستقرار السياسي، والاقتتال على السلطة بين الملكيات والدول القومية الناشئة.
الحروب الدينية، في المقام الأول بين الكاثوليك والبروتستانت، أججت الصراع في جميع أنحاء أوروبا بالتزامن مع تراجع قوة الإمبراطورية الرومانية، وسعي دول مختلفة إلى تأكيد استقلالها. توسعت حرب الثلاثين عامًا من صراع ديني، إلى صراع سياسي أكبر نطاقًا، وتطورت مع الأيام أجندات المتحاربين.
يخطئ من يظن أن الحرب في الشرق الأوسط ليست حربا دينية طائفية، أو لن تؤدي إلى حرب دينية، فدولة إسرائيل أعلنت عن دينيتها، وشرعنت لذلك بإصدار قانون الوطن القومي الذي صدر عام 2018م ونص على أن «إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي» وجعل حق تقرير المصير فيها من اختصاص «الشعب اليهودي فقط»، ليس هذا فحسب، بل نص القانون على أن «الدولة تعتبر تنمية الاستيطان اليهودي قيمة قومية وستعمل على تشجيع ودعم تأسيسه»، وأسقط القانون اللغة العربية باعتبارها لغة رسمية ثانية. هذا الكيان الديني محاط بمسيحيين ومسلمين سنة ومسلمين شيعة، وإذا كانت الحكومات قادرة على ضبط ردود أفعالها اليوم ولجم الخطاب الشعبوي الساخط، وتصرف كدول ذات مسؤولية، فقد تتهيأ ظروف مواتية في وقت آخر لاندلاع حرب دينية مدمرة في هذا المنطقة، خاصة وأن المتطرفين اليهود سواء داخل الحكومة أو داعميهم في إسرائيل، والإنجيليين في أمريكا واليمين المسيحي المتطرف في أوروبا ينطلق في دعم إسرائيل من معتقدات دينية لا يخجل من إعلانها، كما أن طوائف من المسلمين تستعجل الوعد الديني بالمعركة الفاصلة أو الكبرى وتهيئ الظروف بتعبئة الجماهير ليوم الحسم.
لقد اخترقت إسرائيل مرارا ولازالت أهم ركيزة في معاهدة ويستفاليا وهي مبدأ سيادة الدولة الذي تقوم على أساس منه العلاقات الدولية وصانته المعاهدات متعددة الأطراف اللاحقة بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة الذي فرمته إسرائيل من على منصة الأمم المتحدة العام الماضي.
كما أن التدخلات في الشؤون الداخلية لدول المنطقة لم تؤد إلا إلى المزيد من الخرب وتعميق معاناة الإنسان.
يفترض أن الاعتراف بسيادة الدول وإقامة نظام من الاحترام المتبادل، يساعد في الحد من الصراعات ويعزز الاستقرار، ويمثل حجر الزاوية في العلاقات الدولية، ويصنع نظاما دوليا أكثر سلمية وقابلية للتنبؤ. في المقابل فإن انتهاك مبادئ معاهدة ويستفاليا يقود العالم إلى عواقب وخيمة يذهب ضحيتها مئات الملايين من الأبرياء في الحروب، وشواهده جلية سواء في الحربين العالميتين الأولى والثانية أو إبان الحرب الباردة، التي بلغت فيها حدة الاستقطاب مداها بتدخل المعسكرين الشرقي والغربي في شؤون الدول الأخرى لتوسيع النفوذ.
لقد كان جيلنا شاهدا على خرق واضح لسيادة الدول باجتياح إسرائيل سيادة لبنان عام 1982م، واحتلال عراق صدام حسين الكويت عام 1990م، واجتياح أمريكا العراق عام 2003م، ثم مساهمة الناتو الفاضحة في انتهاك سيادة ليبيا وإسقاط الدولة فيها، ولم تقم لها قائمة منذ عام 2011م، ثم الحرب الروسية الأوكرانية التي بدأت إرهاصاتها عام 2014م، واليوم يجر بنيامين نتنياهو ومن خلفه زمرة من الزعران المتطرفين والمتعصبين دينيا منطقة الشرق الأوسط إلى حرب مدمرة.
إذا كانت معاهدة سلام ويستفاليا التاريخية قد شكلت العالم الحديث، وأسست نظامًا للعلاقات الدولية يقوم على سيادة الدولة، مما أسهم في السلام والاستقرار لقرون، فقد أدت انتهاكات مبادئ هذه المعاهدة، والضرب بميثاق الأمم المتحدة عرض الحائط، إلى عواقب وخيمة على المكان والإنسان. الأمل في يقظة مبكرة للدول التي تمتلك قرار إيقاف هذا التدهور يبقى قائما، ولعله يكون قبل الدمار لا بعده.