عبدالوهاب الفايز
في مقال كتبته في جريدة «اليوم» مع انطلاقة الرؤية عام 2016 وكان تحت عنوان (المدينة النظيفة.. بداية التحول).
المعروف علمياً في مشاريع التحديث والتطوير للدول والمجتمعات أن هناك غالباً قوى تدفع بالتغيير وأخرى تقاومه، وهنا تأتي وتبرز أهمية القيادة والإدارة لإحداث التحول الإيجابي. ومما تطلعنا إلية لتحفيز الدعم الايجابي وحتى لا تقول الناس، أو تعتقد ان مشروع التحول هو (مشروع النخبة)، وحتى تتفاعل مع إطلاق الرؤية الوطنية (المملكة 2030) بصورة تجعلها تستوعبها وتدعمها وتبدأ بإزالة الحاجز النفسي والفكري لمشروع التحول الكبير.
من طرفي كنت دوماً في حالة تماس وتفاعل مع حاجة تنموية أراها ملحة وهي: ضرورة الاهتمام بالتنمية العمرانية والمكانية للمدن، وبما تتطلب من توسيع لدائرة التفاعل الإنساني وزيادة لمساحات الخضرة وأماكن ممارسة الأنشطة البدنية والرياضية التي تشجع مختلف الفئات العمرية على الانطلاق في فضاء المدينة والاستمتاع بحياة المدن الإنسانية.
وقتها قلنا تحقيق هذا الهدف (يتطلب البدء بإجراءات تقود إلى مكاسب سريعة يلمسها الناس أمامهم. هذه الرؤية وما تحمله من وعود ومبادرات وبرامج هي للناس ولكل ما ينفعهم، لذا هم الأولى بالتفاعل معها ودعمها ليكونوا جزءا من التغيير وقوته الدافعة.. وليس المحبطة).
طبعاً، ولله الحمد والشكر، حققنا الكثير الذي ربما لم نتوقعه، وأذكر أن سمو ولي العهد الأمير محمد - يحفظه الله- في لقاء موسع أن النخبة الفكرية والثقافية والإعلامية في الرياض مع إطلاق الرؤية قالها صراحة: لقد أطلقنا الرؤية بأحلامها وبأهدافها الكبيرة والطموحة، وربما منكم من يقول إن هذه أقرب إلى الأحلام الكبيرة.. هي فعلا كذلك. ثم قال بثقة القائد الذي يعزم ويتوكل: إذا وفّقنا الله وحققنا نصف هذه الأحلام والأهداف فهذا إنجاز، المهم نبادر ونعمل. وكانت هذه آخر الكلمات التي قالها في اللقاء، لذا ظلّت حاضرة بقوة في الذاكرة.
عندما نتأمل بهدوء، ماذا أنجزنا في السنوات الماضية، نقول بثقة إننا أنجزنا الكثير النوعي الذي يتطلع إليه المجتمع السعودي، وكان الإنجاز الأكبر كان في جبهة ترسيخ مقومات السلام والاستقرار الاجتماعي، وتحقق ذلك عبر الطفرة الكبيرة والصعبة في تحديث وتطوير البيئة التشريعية ومراجعة الأنظمة في مجالات عديدة. وهذا التحدي الأكبر الذي نجحت فيه الحكومة، وهذا النجاح يعزى لكفاءة وحكمة الكفاءات الوطنية القانونية التي تأهلت وتعلمت في أرقى الجامعات العالمية، وتمرست في أعمال الحكومة، وهؤلاء الجنود المجهولون العاكفون على الأوراق في المكاتب كانوا صمام الأمان لرحلة التحول الكبرى لبلادنا.
أيضا الجبهة التي كنت أرى أهمية التحرك فيها هي: (المدينة التي نعيش فيها)، فالمدينة بشوارعها وأرصفتها وميادينها وحدائقها هي المسرح المفتوح للتفاعل الإنساني، وهذا يعطي الحكومات الفرصة للكسب والتأييد لمشاريع التنمية، ويعطي الفرصة لمهمة كبرى (التربية الوطنية)، فعبر المدن نحقق متطلبات إدارة التغيير ونعظم العلاقة بين الشركاء في إدارة التنمية. هنا يتحقق الكسب السريع لثقة وتفهم وإدراك الناس لمتطلبات النقلة الكبرى، وهذا يسهل ويسرع التحول ويجعل الناس دوما جزءا من الحل، وتأخذهم إلى التفكير الايجابي أي تعريف المشاكل على أنها (تحديات)، ومن رحم التحديات تنبع الفرص.
وهنا أنقلكم مباشرة لما قلته في ذاك المقال قبل سبع سنوات لنرى ونقيس ماذا تحقق. حينئذ قلنا: في القطاع البلدي يمكن تحقيق مكاسب سريعة، فهذا القطاع هو الأقرب إلى حياة الناس اليومية. ثمة مكاسب عاجلة وغير مكلفة نحققها عبر إطلاق مشروع واسع لتنظيف المدن من (مخلفات البناء) المهملة في الشوارع الرئيسية وداخل الحارات.
مخلفات البناء واقع سيئ يتعايش معه الناس في مدننا منذ سنوات عديدة بسبب عمليات البناء الفردي للمساكن، فقد يمضي الواحد منا ثلاث إلى أربع سنوات يطارد المقاولين، أو تؤخره القدرة المالية، وهكذا تبقى الحارات مرتعا للنفايات.
وتوسعت هذه الظاهرة السلبية، أيضا، بسبب تساهل البلديات والأمانات في تطبيق الأنظمة التي وضعت لتلافي تبعات مخلفات البناء وأثرها السيّئ على البيئة وعلى حياة الناس. بالإضافة إلى مخلفات البناء، هناك المخلفات الضارة مثل السيارات المتروكة بالآلاف داخل الحارات، ونفايات الإطارات، والنفايات البلاستيكية والكرتونية التي أصبحت مشهدا مألوفا أفقدنا الإحساس بالنظافة! المرحلة الأولى للتنظيف ربما تكون عبر البدء بالنشاط التجاري، والصناعي ومناطق المستودعات.
أيضا تحتاج الرؤية الجديدة إطلاق مشاريع لتفعيل أنظمة إدارة الأرصفة، أولاً عبر تطبيق النظام (إذا هو موجود) لتوحيد مواصفات وتصاميم الأرصفة داخل الأحياء، وثانيا البدء بمعالجة الحفر وترميم الأرصفة المتكسرة في الشوارع الرئيسية، وثالثا الاهتمام بالساحات العامة ومعالجة قصور النظافة والصيانة لأجل تفعيل أنشطة الترفيه.
يتضمن المشروع المقترح أيضا معالجة وضع الاراضي البيضاء داخل الأحياء التي تحولت إلى مصائد للقاذورات ومكب للنفايات التجارية والسكنية. ولتنظيف هذه الأراضي، ربما تبادر البلديات إلى تشجيع الشركات الكبرى لإطلاق مشاريع تخدم هذا الهدف ضمن المسؤولية الاجتماعية لتنظيف البيئة.
ربما هناك أنشطة ومبادرات أخرى تدعم تحقيق هذا الهدف الوطني. التساهل في توسع ظاهرة التلوث البصري الناتج عن المخلفات بأنواعها وعدم الاهتمام بالبعد الإنساني في مدننا مؤشر سلبي لعدم ادراك القيادات الحكومية خطورة التساهل والتهاون في أهمية البيئة الحضرية التي تحتضن تفاعلات الناس اليومية. التلوث البصري يترك اثارا نفسية كئيبة ومحبطة لدى الناس. هذا يؤثر على مستوى الرضى الوطني، أي رضى الناس عن بلادهم.
الرؤية الجديدة تؤكد الاستمرار في تنمية المدن لتعظيم المكاسب السابقة في البنية الأساسية. جاء في وثيقة الرؤية: «سنعمل على استكمال المتطلبات والاحتياجات التي تهيئ لمواطنينا بيئة متكاملة تشمل خدمات أساسية ذات جودة عالية من مياه وكهرباء ووسائل نقل عامة وطرقات، وسنوفر العديد من المساحات المفتوحة والمسطحات الخضراء في مدننا، لإدراكنا حاجة كل فرد وأسرة إلى أماكن للنزهة والترفيه، وغايتنا من ذلك أن نرتقي بمستوى جودة الحياة للجميع». وختمنا المقال بهذه: نظافة المدن وحيويتها الإنسانية مؤشر رئيسي على جودة الحياة).
لماذا نجدد الأماني هنا حول أهمية رفع كفاءة إدارة وتشغيل المدن؟ لأننا مازلنا نواجه التحديات الكبرى في الواقع البلدي، ونخشى أن يكون هذا مازال عائق التقدم والنجاح في برامج الرؤية.
بلادنا تعيش طفرة بناء. لا نقول نحن هذا، بل هذا ما توقعته شركة الاستشارات العقارية العالمية نايت فرانك. (توقعت أن تصل قيمة إنتاج البناء في المملكة لجميع القطاعات إلى 181.5 مليار دولار بحلول نهاية عام 2028، ما يجعل المملكة العربية السعودية أكبر سوق للبناء في العالم. وأوضحت في تقرير لها، أن السعودية تشهد طفرة كبيرة في أنشطة البناء، حيث وصلت قيمة مخرجات البناء للقطاعات السكنية والمؤسسية والبنية التحتية والصناعة والطاقة والمرافق والقطاعات التجارية إلى 141.5 مليار دولار، بزيادة قدرها 4.3% مقارنة بالعام الماضي).
ما أجمل بلادنا، وما أجمل تحدياتنا. أتذكر دوما ما قاله الأمير خالد الفيصل، أحد قادة التنمية المتميزين في بلادنا، في اجتماع لجنة التنمية في إمارة مكة قبل تسع سنوات، قال: عندما أرى الصحف وفيها الحديث عن المشاكل والتحديات، أشعر بالسعادة، فهذا يعني أننا نمضي في التنمية، وقال شيئاً جميلاً لا يقوله إلا الشعراء وأبناء الملوك وكبار النبلاء: لقد عشت التنمية، وصلت الحجاز مع أمي على بعير، وسافرت معها إلى الأحساء بالسيارة، وركبت الطيارة مع جدي الملك عبدالعزيز إلى الظهران.. وكل هذا تم في ست سنوات!
والآن.. في ست سنوات نرى ماذا أنجزت بلادنا. بقى احترافية وضع (اللمسات الأخيرة) الجميلة المبدعة التي تظهر المنتج. وهذا ما تحققه عمارة المدن الحيوية.