أ.د.عثمان بن صالح العامر
هناك من يعطِّل عقله الذي منحه الرب سبحانه وتعالى وجعله مناط التكليف، ويعطي غيره أياً كان هذا الغير الحق المطلق في التفكير عنه واتخاذ ما يراه محققاً لمصلحته ظناً منه أنه غير مؤهل للتفكير والانتهاء لقرار يلبي احتياجاته الآنية والمستقبلية وأن هذا الآخر أدرى بمصلحته من نفسه للأسف الشديد، وفي المقابل وعلى الضد هناك من الناس من هو مصاب بحمى التفكير في كل شيء، حتى ولو كان هذا المفكر فيه لا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد، حتى ولو كان لا يترتب على تفكيره في هذا الشيء فعل يغير في مجريات الأمور، حتى ولو كان هذا التفكير يمس خصوصية الآخرين، حتى ولو كان هذا التفكير يأخذ من وقته وجهده وربما ضر في علاقاته وأثّر على حياته الاجتماعية والأسرية.
مولع هذا المخلوق الطفيلي بمعرفة تفاصيل التفاصيل، ومهووس بالنقد والتحليل، ولا يرتاح له ضمير ولا يهدأ له بال حتى يعرف ما لا يريد لمثله أن يطلع عليه لأنه باختصار شديد لا يعنيه.
هذا اللون من البشر متعب لنفسه، وفي ذات الوقت متعب لغيره بشكل كبير، فهو كثير التساؤلات، لا يعرف حداً للعلاقات مع الآخرين، ولا يجيد فن ضبط المسافات بينه وبين الناس، ولذلك ينفر منه من حوله، ويتحاشون الجلوس إليه والحديث معه لأنه لن يرضى ولا يكتفي بما سمع في هذه الجلسة الخاصة أو تلك، بل سيبحث عن ما وراء القول أو الفعل، ولن يرتاح له بال حتى يصل إلى تفسيره الخاص لكل ما قيل أو نُقل، وغالباً ما يتولّد عن هذه الحمى الموجعة مرض الحسد المزمن والحقد الدفين، ذلك أنه سيكتشف من خلال تفكيره العميق في أحوال الناس وتتبع أخبارهم أن كثيراً منهم تنساق له النعم سوقاً من الله، وهو في ظنه أقل منه ذكاءً وأدنى مرتبةً وكان من المفترض - طبعاً في نظره - أنها ذهبت إليه ولم تتجاوزه لهذا أو ذاك من المقربين إليه أو أصدقائه وأترابه، وهذا في حقيقته اعتراض على قدر الله، ليس هذا فحسب، بل إن حماه هذه ستدفعه إلى أن يعتقد في نفسه أنه هو فريد زمنه يعرف كل شيء، ويفتي في أي شيء، فهو المحلِّل السياسي والخبير الاقتصادي والمصلح الاجتماعي والمفكر الفاهم والمفتي العالم والمخطط الإستراتيجي المستشرف للمستقبل و... وهو في الحقيقية لا شيء من ذلك كله، بل هو عالة على المجتمع ومرجف في الأرض وكان الأجدر به أن يصرف جهده ووقته ويوفر تفكيره وتساؤلاته وتحليلاته واستنتاجاته فيما يعنيه ومحل مسؤوليته المباشرة واهتمامه الخاص سواء على المستوى الشخصي أو الأسري أو الوظيفي.
وإننا جميعًا قابلنا أو قد نقابل في حياتنا مثل هذا النوع من البشر الذي يسألك عن كل شيء ويفكر ويربط ويحلِّل وكأنه ولي نعمتك والمتفضِّل عليك في هذه الدنيا، أو أنك قد تجد في المجلس من يحلِّل المواقف السياسية المفصلية العظمى ويوجه ويرشد، وكان من الواجب ... والمفترض أن يكون ... مع أنه نكرة في هذا التخصص، وكل ما يدلي به ويقوله لن يغيِّر من مجريات الأحداث شيئًا، وعلى ذلك قس، ومثل هؤلاء الناس من الضروري أن تضع بينك وبينه المسافة الكافية حتى تسلم من حماه التي تضرك وقد تعديك، فتصير مشغولاً بالناس والأحداث الجسام عن الاهتمام بنفسك وولدك ووظيفتك ووطنك، وإلى لقاء، والسلام.