د. عبدالحق عزوزي
الدعوة إلى الأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ هي مسألة تعبر عن نَوايا صالحةٍ وصادقةٍ من أجل دعوةِ كُلِّ مَن يَحمِلُونَ في قُلوبِهم إيمانًا باللهِ وإيمانًا بالأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ أن يَتَوحَّدُوا ويَعمَلُوا معًا في جَوٍّ من إدراكِ النِّعمةِ الإلهيَّةِ الكُبرَى التي جَعلَتْ من الخلقِ جميعًا إخوةً.. وهاته العبارة هي لوحة جميلة بليغة في عباراتها، فواحة بطيب كلمها.. ثرية في محتواها ودلالاتها.. رشيقة في عرض مقاصدها.. ذكية في تبليغ رسالتها؛ لوحة متألقة يخطها ويهندس كلماتها وجمالياتها أناس يؤمنون بالأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك.
فالبشرية اليوم وللأسف ليست على شيء يُحمَدُ لها أو يُسعِدُها في أمنها واستقرارها، ولن يتغير حالها إلى ما يلبي تحدياتها إلا بالتدافع الإيجابي بينها وتفعيل مكنونات الخير في مخزونها الوجداني من أجل عمارة الأرض وإقامة العدل وصون كرامة الإنسان وسلامة البيئة وتوفير الاستقرار والتنمية وتحقيق تعايش بشري آمن.
ولكن كيف..؟
البداية هي الحوار. مع التأكيد أن الحوار ليس غاية لذاته بل هو وسيلة حكيمة من أجل غاية عظيمة وجليلة ألا هي « التعارف». والتعارف يوم يقوم بين جميع الناس دون استثناء ينشئ مدخلاً كريمًا وتربة خصبة ومناخًا حيويًا لغرس بذور غاية أعظم وأجل ألا وهي « التفاهم».
والتفاهم يوم تتأصل شجرته في نفوسهم وتشمخ فروعها في آفاق حياتهم وتأنس أرواحهم في ظلالها الوارفة يومئذ تبدأ المجتمعات جني ثمراته وإذاك تكون قادرة على بلورة قيم ومبادئ وأخلاقيات ووسائل وضوابط سياسة بشرية راسخة يكون منطلقًا صلبًا، وسبيلاً آمنًا لمسيرة بشرية راشدة.
والسؤال يبقى يلح ليقول من جديد: كيف وما هو السبيل إلى ذلك..؟
والجواب مرة ثانية وثالثة هو: الحوار.. أجل الحوار.. ولكن مع إضافة نؤكد بها فنقول: الحوار المحايد، المحايد دينيًا والمحايد ثقافيًا والمحايد سياسيًا والمحايد اقتصاديًا والمحايد عرقيًا؛ نريد حوار الإنسان للإنسان وفق قيم محايدة بعيدًا عن خصوصيات الفهم والاجتهاد والتأويل للمنطلقات الربانية الإنسانية الجامعة. لا نريد حوارًا لتنتصر ثقافة بعينها على ثقافة أخرى أو لتبسط دولة ما هيمنتها على دول أخرى بل نريد حوارًا ينتظم به ومعه التنوع البشري بكل أشكاله ومصالحه.
نريد حوارًا مؤسسًا على ثوابت الاحترام المتبادل نريد حوارًا ترتكز منهجيته على عدم التعرض للخصوصيات الدينية والثقافية والاجتماعية وعدم انتهاك رموزها ومقدساتها. نريد حوارًا تحشد به طاقات وإمكانات التنوع البشري بكل انتماءاته ومضامينه ومسمياته وطموحاته من أجل التعاون والعمل الصادق لإجلال وصون:
1 - قدسية قيم الإيمان بالله، ووحدة الأسرة البشرية ومصالحها المشتركة.
2 - قدسية حياة الإنسان وكرامته وممتلكاته.
3 - قدسية العدل والسلام وسلامة البيئة.
4 - قدسية عقل الإنسان وحريته وغذائه وصحته وتعليمه.
نفهم من خلال هذا الكلام أن نظريات «صدام الحضارات» و»حرب الثقافات» هي خطابات خاطئة ومغرضة تنبني على سجن الأفراد والجماعات في انتماءاتهم وهوياتهم الثقافية والحضارية، فلا يعقل أن تنمو وتتطور حضارة من الحضارات في معزل عن مكونات الحضارات والثقافات الأخرى، فالحضارة الغربية استفادت من الحضارة العربية الإسلامية، كما أن الحضارة الإسلامية حققت انطلاقاتها وحققت ثقافة النحل في الإنتاج والإبداع بتلاقحها وتمازجها مع الحضارات الفارسية والبيزنطية السابقة والمعاصرة لها.
فمن أسباب خلق الخلق اختلافهم، ولا يمكن الاستشهاد بهذه الرؤية المرجعية الكبرى وعدم الاتفاق حول الجوامع المشتركة، فهما عاملان لمعادلة توازنية واحدة، إذ كيف يمكن الإيمان بحقيقة الاختلاف الإنساني دون التفاهم حول الجوامع المشتركة، فالاختلاف قدر محتوم، والهدف من ذلك هو التعارف والتآلف؛ كما أن المشكل في الأخير ليس في الحوار الإسلامي-المسيحي أو الإسلامي-اليهودي أو الإسلامي-المسيحي-اليهودي حصرا، ولكن الحوار هو أعم من ذلك وأشمل، إذ يقتضي الكليات والجزئيات في الدين والسياسة والاقتصاد والثقافة والميادين الاجتماعية.
ثم إن التناقضات لم تتوقف يوما من الأيام بل كانت في بعض الأحيان أكبر مما هي عليه اليوم وتجعلنا نخالف السيد امين معلوف في أطروحته عن غرق الحضارات، فالحضارات باقية باقية ولن تغرق مادامت الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون، وهي مكونات الحضارة، مستمرة ومادامت تلكم الحضارات وعاء لثقافات متنوعة تعددت أصولها ومشاربها ومصادرها، لتمتزج وتتلاقح ولتشكل خصائص الحضارة التي تعبر عن الروح الإنسانية في إشراقاتها وتجلياتها وتعكس المبادئ العامة التي هي القاسم المشترك بين الروافد والمصادر والمشارب جميعا.