د. فهد بن أحمد النغيمش
هذا العنوان ما هو إلا محاولة لكسر مثل قديم مفاده (زامر الحي لا يطرب)! وقصته تعود أصلاً إلى شاب فقير تميز بإبداعه في العزف على آلته التي تسمى (الناي) وهو يرعى الغنم على تخوم قريته، حتى اعتاد أهل القرية على سماع ألحان الشاب الجميلة، فقل اهتمامهم بعزفه، ولم يلتفتوا إلى إبداعه، إلى أن مرّ عليه أحد الرحالة فانتبه لعزفه، وتحير من جمال ألحانه، فعرض على هذا الشاب الرحيل معه، على أن يعطيه ألف درهم كل شهر؛ فوافق الشاب بلا تردد، وانتقل مع الرحالة من غير وداع أهل القرية، وصار يعزف في القرى البعيدة، فذاع صيته وسبقه، وأصبح الناس يأتون إليه من كل مكان ليستمتعوا بعزفه حتى أضحى الراعي الشاب عازفا شهيرا لا يشق له غبار! ثم إن الشاب حداه الشوق في يوم من الأيام ان يزور أهل قريته وحيّه، ليروا ما آل إليه حاله، فعاد إلى القرية بأبهى حلله، فلم يعرفوه، فلما اجتمعوا حوله، أخرج نايه وعزف مغمض العينين. فطرقت آذانهم إلى ألحان ألفوها منذ زمن ورجعت بهم الذكريات للوراء وقالو (فلان)! ولذا حينما أنهى الشاب عزفه لم يسمع التصفيق الذي اعتاد عليه في الأماكن الأخرى، ففتح عينيه ووجد رفيقه الرحالة فقط، فقال للشاب: «زامر الحي لا يطرب». فأصبحت مثلاً يتناقله الركبان ويُستشهد به في كل مكان، ونحن إذا سلمنا بصحته حقيقة فنحن قد نجد له من الشواهد في واقعنا ما يشهد له بصدق العبارة وحقيقة المعنى وقديماً قال كبار السن مثلاً يحاكي ذلك (من عرفك صغيراً حقرك كبيراً) فقد يكون الاعتياد على رؤية الشخص دوماً دافعا كبيرا لأن يقلل من قيمته فمثلاً على مستوى القطاع الخاص يلجأ البعض الى الاستعانة بالأجانب في مواقع قيادية وربما حساسة لإيمانه التام بأن ابن البلد وابن مجتمعه لا يقدم عطاء يماثل عطاء ذلك المستجلب! نؤمن بالتنوع والاستفادة من خيرات الآخرين ولكن (الأقربون أولى بالمعروف).
لو تأملنا سير بعض العلماء والمخترعين وجدنا أنهم نالوا التكريم والتقدير في غير مجتمعاتهم كابن سينا والرازي والبخاري وحتى على مستوى العلماء المتأخرين تجد كل واحد منهم وجد تقديره في غير محيط مجتمعه، (ليوناردو دا فينتشي) العالم الإيطالي المشهور والذي أبهر العالم بمخترعاته غادر إيطاليا فوجد التكريم والتقدير من ملك فرنسا حتى مات!
يبدو لي أن هناك علاقة بين مستوى القرب ومستوى التجاهل فكلما قربت المسافة بين البعض زادت حدة التجاهل، وكلما ابتعد كان محل تقدير واعتراف بتفوقه، ومع ذلك ما زلت أقول: مزمار الحي قد يطرب! ولكنه يحتاج إلى أن يمنح فرصة ولو كانت ضئيلة وهي دعوة لتغيير أفكارنا وتفكيرنا حول الأشخاص من حولنا فلا يمكن الحكم على تفوقه أو إبداعه من خلال معرفتك به قديماً ولا لاعتياد الرؤية اليومية للشخص فتلكم معايير غير دقيقة وغير صحية! هي دعوة رئيسة إلى تفكيك القناعات المترسبة والمترسخة في الأذهان حول نظرتنا الدونية لكل من اعتدنا رؤيته في اليوم والليلة أو احتفظنا بتاريخه في صغره وشقاوته، فبيننا مبدعون ومتألقون ومن حولنا أناس ينتظرون الفرصة ليعزفوا سيموفنية من الإبداع وحتى نكسر الجمود ونخلع النظارة السوداء لكل من عرفناه وألفناه فـ(مزمار الحي يطرب)!