العقيد م. محمد بن فراج الشهري
هناك عدة تساؤلات مُثارة حول ظاهرة العولمة: هل يمكن أن تصبح العولمة مصدراً للتقدم والرخاء الاقتصادي لكي يشمل العالم أجمع كما يعتقد كثير من الاقتصاديين؟ هل تصبح العولمة مصدراً لتهديد استقرار وأمن المجتمعات والبيئة الطبيعية كما يعتقد أنصار البيئة والعمال الكادحون؟ هل يمكن للعولمة أن تقلل من سلطة الحكومات المحلية وسيطرتها على السياسات الاقتصادية والاجتماعية؟ أم كل هذه مجرد تساؤلات حول ما يمكن أن تحدثه العولمة؟
هناك أسباب معقولة للاهتمام بالمناظرات التي عُقدت وتُعقد حول العولمة بين مؤيد ومعارض.
إن الذين يناصرون عملية التكامل الاقتصادي بين الدول بعضها البعض يتهمون المعارضين بأنهم يجهلون القوانين التجارية بدعوى الحفاظ على الاقتصادات القومية وهم في الحقيقة ليسوا متخصصين في قواعد التمايز التي تختص بها كل دولة، وبالتالي لابد من وجود تكامل بين اقتصادات دول العالم حتى تتوافر عدالة التوزيع في التجارة ويعم الرخاء كل العالم.
لا شك أن كلاً من الفريقين لديه محاور وملاحظات عن العولمة جديرة بالاهتمام والمناقشة، هذه المحاور تدور بالأساس حول تأثير العولمة على الأجور والأبحاث الاقتصادية الهامة، فقد يؤثر حجم الزيادة في التجارة في بعض الدول النامية على أجور العمال الأمريكيين خاصة غير المهرة بحوالي 20 % بينما تظل أجور العمال المهرة والمدربين مرتفعة، وفي هذا الإطار ذكر أسئلة عديدة حول عولمة التجارة وتأثيرها على النظم السياسية والمؤسسات الاجتماعية والقيم والعادات والتقاليد إلى جانب النظم الاقتصادية التي ربما تتعرض لمخاطر عديدة بسبب ارتباطها بآليات السوق، كل هذه الأسئلة من الصعب الإجابة عليها لذلك يجب أولاً أن نفهم ما هو المقصود من العولمة وما مدى حدودها؟
فبالرغم من الثورة التكنولوجية التي طورت وسائل المواصلات والاتصالات، مما ساعد على تحرير التجارة بين الدول إلا أن النظم الاقتصادية القومية لكل دولة ما زالت منعزلة، فكل دولة تطبق نظاماً اقتصادياً منفرداً بها وترفض التكامل مع الدول الأخرى. وعلى حد قول «بول كروجمان» إن اقتصاد الدول المتقدمة ليس مرتبطاً بعولمة الاقتصاد حسب الاعتقاد السائد، فلكل دولة خصوصيتها في إدارة اقتصادها وسياستها الاجتماعية ومؤسساتها التي قد تختلف عن الدول التي لها علاقات تجارية معها، على سبيل المثال اتفاقية النافتا NAFTA بين دول شمال أمريكا، ثبت من خلال دراسة قام بها الاقتصادي «»جون مالكوم»، أن حجم التجارة بين أي ولاية كندية وولاية أمريكية أقل عشرين مرة من حجم التجارة بين الولايات الكندية. وهذا يعني أن الأسواق الكندية والأمريكية مازالت متباعدة.
مثال آخر، رأس المال الذي يمكن أن يعبر حدود الدول دون قيود من أجل الحصول على أعلى الأرباح، حيث يرى الاقتصادي «مارتن فلدستين» أنه يمكن لدولة مثل فرنسا أن تعتمد على أرباح استثماراتها داخلياً دون اللجوء إلى المدخرات القومية.
وهذا ليس صحيحاً لأنه في كل دول العالم ترتبط زيادة المدخرات بزيادة الاستثمارات، كما أنه ليس صحيحاً أن رأس المال المتجول يعود بأعلى ربحية، وذلك يعتمد على أسعار الفائدة التي تختلف من دولة إلى أخرى، ومثال آخر - أسعار البضائع المماثلة تختلف من دولة إلى أخرى وذلك يرجع إلى السياسة الاقتصادية التي تتخذها كل دولة.
إن طبيعة العولمة المحدودة ربما يكون من الأفضل وضعها في إطارها التاريخي وذلك لأن كل المقاييس الاقتصادية التي تنطبق على الاقتصاد العالمي قد وصلت إلى الذروة في القرن التاسع عشر، إن الحجم التجاري لكل من الولايات المتحدة وأوروبا قد وصل إلى أعلى مستوى قبل الحرب العالمية الأولى ثم تدهور في الفترة ما بين الحربين، وفي اليابان فإن معمل تصدير المنتجات المحلية أقل مما كان عليه في الفترة ما بين الحربين.
ولا يجب أن نستخلص مما سبق أن العولمة أصبحت غير ذات قيمة، وذلك لأن جميع دول العالم تسعى إلى زيادة حجم التبادلات التجارية من خلال سياسات تحرير التجارة، ولذلك أصبحت المنافسة بين الدول شديدة بحيث لا يمكن تجاهلها، بالنسبة لأجور العمال فإن عولمة التجارة يمكن أن تكون «وجهين لعملة واحدة» من ناحية يمكن أن ترفع تكلفة العمال المهرة، وبالتالي مستوى معيشتهم من ناحية، ومن الممكن أن تزيد معدلات البطالة من ناحية أخرى، ففي اليابان بدأت الشركات الكبيرة تعيد النظر في نظام العمل مدى الحياة والذي كان أحد المميزات الاجتماعية لدى اليابان، وفى ألمانيا وفرنسا تحتج نقابات العمال على الحكومة لمحاولتها إنهاء الإعانات في حالة البطالة، وفي كوريا الجنوبية احتج العمال على الحكومة لعدم تدخلها لوقف الممارسات المتعسفة ضد العمال، وقد برر العمال موقفهم بأنهم يواجهون سوقاً عالمية شديدة التنافس ويجب توفير كل الإمكانيات لضمان استمراريتهم في هذه المنافسة، ولذلك تبدو العولمة ظاهرة غير مفهومة لكثير من الناس.
إن القلق والخوف من العولمة والأثر الذي تحدثه على الاستقرار الاجتماعي جعل الطلب على تدخل الحكومات يزداد بشكل لم يسبق له مثيل منذ القرن التاسع عشر، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، لا شك أن الحكومة هي المؤسسة القادرة على حل مشاكل البطالة وتأمين العاملين اجتماعياً وصحياً ضد المخاطر الاقتصادية والتجارية وتقلبات السوق، إلى جانب أن أصحاب المصانع والشركات ليسوا على استعداد للمساهمة لتأمين العمال ورفع مستوى معيشتهم وذلك يرجع إلى المنافسة الشرسة في السوق العالمية والتي تستوجب استغلال كل فرص الاستثمار المحلية والدولية دون مراعاة الجانبين الاجتماعي والإنساني.