د. هيثم الصديان
موضوع الثقافة والعلاقات البنيوية بين حقولها المعرفية، هو «ذو شجون» كما يقال. وهو موضوع معرفي/ أبستمولوجي شائك وشائق في الوقت نفسه. ولقد كان للعلماء العرب إسهامهم المهم في هذا المجال المعرفي، وهو موضوع قد يبدو للكثيرين عديم الفائدة أو من ترف القول وفضول البحث، كما أنه عند الغوص فيه سيكون لغير المتخصصين نوعاً من التفلسف النظري الفارغ أو هو لغة ذات حمولة عاطفية - شبه مفهومية فارغة كما يقول علماء المنطق التحليلي في توصيف بعض النصوص الفلسفية الميتافيزيقية التي لا يرضاها هؤلاء المناطقة.
لكننا حين نطلع على بعض مناحي تلك العلاقات بين العلوم في حركة الثقافة ونتفحصها ونتحرى بعض جوانبها سنجد في هذا الموضوع شيئاً كبيراً من التشويق والمتعة المعرفية، كما قلنا أعلاه، وسنعرف كيف تتكون بعض تلك العلاقات على نحو تعاوني أو تنافسي، وكيف تسيطر بعض تلك العلوم على بعضها الآخر، وكيف تتم فلسفة التقاءاتها وتحالفاتها، ضمن حركة بنيوية تفاعلية شبيهة بتلك التحالفات التي تجريها الدول بين بعضها أو الساسة في محافلهم البرلمانية والسياسية. وهنا سأتحدث عن جزء يسير من الخطوط العريضة لبعض تلك العلاقات، خاصاً به الفلسفة وعلمَي التربية والنفس في الثقافة العالمية من جهة، وعلمَي النحو والبلاغة العربيين في حركة الثقافة العربية من جهة أخرى. وسيكون الحديث ومضة فيها كثير من الاختزال الذي يحوج الراغب في الاستزادة إلى مزيد من الاطلاع والمتابعة في الكتب التي اهتمت بهذا الجانب (وسأشير إليها في آخر المقال):
فالفلسفة منذ نشأتها وهي في علاقة وطيدة مع الدين؛ بل هي ابنة الميتافيزيقيا والدين، ولا تستطيع أن تخرج عن دائرتهما، وما يحصل من بعض الخلاف الرؤيوي والمنهجي لا يعدو كونه خلاف الأسرة الواحدة. فهي أسرة تنتمي إلى العِلْم السماوي الفوقي.
أما علم النفس فهو علم من أسرة أخرى، إنه ابن الأسرة البشرية. وهو العلم الذي حاول أن يلغي ثنائية: الجمال/ القبح.
غير أن أسرة العلوم السماوية استطاعت أن تتحالف مع بعض العلوم وأن تربطها بها؛ مثل علم التربية ومتفرعاته؛ فساعدت تلك العلوم على إعادة الثنائية العمودية بين الجمال والقبح.
بينما ما يزال النقد الأدبي يلعب دور العلم الحيادي المستقل الذي يحتفي بالجمال كما يحتفي بالقبح، لكنه لا يستطيع أن يمرر حياده إلا من خلال الاعتماد على لعبة «التقية الجمالية»؛ فيحتفي بالقبح على أساس أنه وجه من وجوه الجمال المجهول. وهذه جنايته الجمالية الكبرى بحق بشرية القبح.
فكل العلوم التي تقع تحت شهوة الجمال تصير أوتوماتيكياً أو تلقائياً علوماً سماوية علوية.
وطالما تظل العلاقة بين الجمال والقبح علاقة بلاغية عمودية فهذا يعني أن السماء بخير.
والعرب سبقت غيرها من الأمم حين وضعت النحو علماً حاول أن ينتصر لأسرة العلوم البشرية ويكون نداً لمنطق اليونان وفلسفتها الميتافيزيقيين، لكنه حين ضعف أبستمولوجياً استعان بالبلاغة التي كانت حليفاً سابقاً لأسرة العلوم السماوية، والتي لا تعرف إلا العلاقة ذات الاتجاه العمودي.
لقد أخطأ النحو حين استعان بالبلاغة كما أخطأ علم النفس حين استعان بالتربية. وخطأهما ليس في الاستعانة ذاتها؛ فهذا جائز بين العلوم وحقولها المعرفية، وهو نوع من التقنية الوجودية والإسناد المرجعي اللذين يحفظان وجود العلوم ويقويان مكانتها المعرفية في ساحة الثقافة الأكبر، بيد أن الخطأ يأتي من الخطوة التالية على التحالف، وهي خطوة/ ونتيجة حتمية، حين يتحول التحالف إلى مسودة مشروع وحدوي. وهنا يأتي الخلل الأبستمولوجي؛ إذ يتطلب هذا تواشجاً نظرياً وتطابقاً عملياً ينجم عنه عمليات نقل وتبادل وتضام أسسي واصطلاحي ومفاهيمي، على الرغم من أن زمرة الأنساق المعرفية (دماءها) المنتمية للعلوم السماوية تختلف عن زمرة تلك الأنساق المكونة للعلوم الأرضية (دمائها)، الأمر الذي يؤدي إلى شيء من التسمم المعرفي والخلل القواعدي في بنية العلوم المستعينة بالعلوم الأخرى.
ولقد كانت أسرة العلوم العلوية الميتافيزيقية سباقة إلى الكشف الأبستمولوجي (الطبي) حول الصحة المعرفية المتعلقة بحالات التحالفات والنقل المعرفيين بين العلوم وحقولها. وعليه؛ فهي كانت دوماً تشترط في علاقاتها وتحالفاتها مع العلوم الأرضية أن تحافظ مصطلحاتها ومفاهيمها ومعارفها المنقولة على بنية قواعدها وأسسها المعرفية كما كانت قبل النقل، في المقابل فإنها لا تفتح باب الاستراد إلا بعد أن تضمن تجريد المستورد إليها من أسسه البنيوية ونظمه القواعدية التي كانت فيه قبل الانتقال، ثم تطهيره بعد ذلك بماء وضوء الأسس البنيوية العلوية. هذا التوصيف ليس ضرباً من اللغة الشعرية ولا تهويماً صوفياً ولا فلسفة رمزية. بل هو حقيقة معرفية حتمية وتلقائية بين العلوم، وقد عرفتها حركة الثقافة العربية ونظر فيها علماء الأصول وفقهاء اللغة نظرات علمية معرفية/ أبستمولوجية جاءت على غاية في البراعة ونهاية في الحذق والفهم، ومن ثَم نظروا لها تنظيراً فقهياً وفلسفياً يبين عن عبقرية خالصة وعن القوة الثقافية لتلك الحضارة العربية - الإسلامية، وهو موجود في كتابات أصحاب الأصول، كالسراج وابن جني وابن تيمية والسيوطي وغيرهم.
المراجع: الخصائص لابن جني. الأصول في النحو للسراج. درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية. في أصول النحو لسعيد لأفغاني. بنية العقل العربي للجابري.