د.عبدالرحيم محمود جاموس
تمر القضية الفلسطينية بمنعطف تاريخي حاد، ينذر بجملة من المفاجآت والتغيرات التي قد تدفع إلى إعادة النظر في مجمل استراتيجيات التعاطي معها، من مختلف المواقف العربية والدولية من القضية الفلسطينية، ذلك أن حكومة اليمين الصهيوني المزدوج عازمة على ضم المستوطنات وأراضي الغور وشمال البحر الميت، دون أي اعتبار لكافة المواقف العربية والدولية الرافضة والشاجبة والمستنكرة لمثل هذه الإجراءات من جانب المستعمرة الإسرائيلية والتي تنظر إلى الأراضي الفلسطينية بأنها جميعها أرض إسرائيل، وأن كافة حروبها كانت من أجل تحريرها، وبالتالي لا تعترف بأي شكل من الأشكال إنها دولة احتلال تحتل أراضي غيرها أو أراضي الفلسطينيين.
إنما هي محررة لهذه الأراضي، وبالتالي من حقها التوسع والبناء فيها بكل حرية كما من حقها ضمها كلها أو جزء منها كيف تشاء.
هذا الفهم السياسي الاستعماري والنفسي المضطرب لنظرة الكيان الصهيوني لذاته ولأفعاله العدوانية العنصرية والتوسعية من استيطان وضم لأراضي غيرها، وكذلك فهم وتصرف قادته وداعميه في هذا المجال، من شأنه أن ينهي كل أمل في التوصل إلى حلول وسط من شأنها أن تؤدي إلى تسوية تكفل الأمن والكرامة والسلام للطرفين في دولتين متجاورتين على إقليم فلسطين، لهذه الأسباب أخفقت الأمم المتحدة سنتي 47-48م من القرن الماضي من تنفيذ قرار التقسيم رقم181 والذي يقضي بإقامة دولتين فلسطينية ويهودية حيث لم تلتزم العصابات الصهيونية بما خصها به قرار التقسيم.
وتوسعت على حساب الجزء المخصص لقيام الدولة الفلسطينية، كما رفضت تنفيذ القرار 194 الخاص بعودة اللاجئين لأنها لا تؤمن بحق الفلسطينيين في العيش في (أرض إسرائيل).
في نظر الكيان الصهيوني وقادته اغتصاب فلسطين يعني فقط (إنه قد تم تحرير بقية أرض إسرائيل في عدوان 1967 م ولا يرى في نفسه أنه محتل لأراضي غيرها) فيشرع عمليات الضم والاستيطان والهدم كيف يشاء.. ولا يقبل ويرفض أن يفسح المجال أمام تنفيذ تسوية حل الدولتين استنادا إلى الشرعية الدولية وقراراتها التي هي أصلاً تمثل ظلماً تاريخياً لفلسطين وشعبها.
هنا يطرح السؤال ما العمل؟! أمام تطبيق وتنفيذ هذه الرؤية العنصرية الصهيونية المدمرة لكافة جهود التسوية القائمة على الحل الوسط والشراكة في إقليم فلسطين، بما يؤدي لإقامة دولتين متجاورتين تعيشان في أمن وسلام (فلسطين/وإسرائيل)، في الوقت الذي يعمل الكيان الصهيوني وبشتى الوسائل والأساليب لفرض رؤيته وكيانه (المستعمرة) كيانا وحيداً فوق أرض فلسطين نافياً ونازعاً صفة الشراكة له فيها مع أي شعب آخر رغم كافة القرارات والمواقف الدولية الرافضة لرؤيته وسياساته، وإقدام حكومة المستعمرة على تنفيذ ضم الأراضي الفلسطينية والتوسع فيها، من شأنه أن يحول دون تحقيق حلم الفلسطينيين في قيام دولة مستقلة لهم وقابلة للعيش بجوارها، إنما هذه الإجراءات تُشرِعُ لإقامة دولة يهودية عنصرية واحدة فوق كامل إقليم وأرض فلسطين، ستكون هذه الدولة أسوأ وأقبح من النظام العنصري البائد في جنوب أفريقيا، إن الرَّد على هذه الإجراءات والسياسات، إذا لم يواجه بمواقف حازمة من قبل النظام الدولي وخاصة مجلس الأمن والدول الدائمة العضوية فيه، وتبني تنفيذ حل الدولتين وتنفيذ القرارات الصادرة بشأنها وخاصة القرارين 181 و194 و242 إلخ من سلة القرارات الأممية التي تؤكد على التزام باحترام حقوق الشعب الفلسطيني الثابتة غير القابلة للتصرف في وطنه فلسطين، وإلا يقتضي التخلص من أحلام حل الدولتين فلسطينياً وعربياً ودولياً.. لأن تلك الإجراءات التي تسعى المستعمرة إلى تنفيذها لن تبقي مكانا لفكرة حل الدولتين، فقد أجهز عليها تماما، ليبدأ النضال من الآن فصاعدا من أجل (نعم للدولة الواحدة ولكن غير العنصرية)، الدولة الواحدة الديمقراطية التي يعيش فيها الجميع على أساس من المواطنة والمساواة دون تفرقة على أساس من الدين أو اللون أو الجنس، وتقوم العلاقة فيها بين الفرد والدولة على أساس المواطنة فقط، وتعيد جميع المهجرين من اللاجئين الذين شردوا أثناء الحروب سنتي 47-48م وسنة 67م إلى ديارهم، مثل هذه الدولة هي التي تؤسس فقط لمصالحة تاريخية تكفل العيش للجميع فيها بأمن وسلام.
وفي الأصل كانت فلسطين أحد الأقاليم المنسلخة عن الدولة العثمانية إثر هزيمتها في الحرب العالمية الأولى عام 1918م، وتم إخضاعها للانتداب البريطاني لتأهيلها للاستقلال شأن غيرها من الأقاليم التي أخضعت للانتداب، وقد اكتسب المهاجرون الأوائل إليها من اليهود جنسيتها في ظل الانتداب البريطاني، لم يكن هناك شيء اسمه إسرائيل سوى في أذهان المستعمرين والصهاينة، ولكن على أرض الواقع لم يكن في إقليم فلسطين إلا فلسطين، وقد أثبت الواقع أنه لا يمكن أن يكون فوق إقليم فلسطين سوى دولة واحدة، هي دولة فلسطين الديمقراطية، وفيها يمكن استعادة الحقيقة التاريخية والقانونية والسياسية والاجتماعية لإقليم فلسطين، والتي يتحقق فيها العيش الآمن والمشترك للجميع على اختلاف معتقداتهم دون تمييز لمن يرغب العيش فيها، كمواطنين متساوين جميعاً أمام القانون الذي يحكم الجميع، هذا ما سعت وتسعى إليه الحركة الوطنية الفلسطينية قديماً وحديثاً ممثلة في كافة فصائلها الموحدة في إطار م.ت.ف، بعد أن أثبتت الوقائع على الأرض أن الحلول المرحلية القائمة على تحقيق مبدأ الدولتين بات أمراً مستحيلاً.
إقليم فلسطين لا يمكن ان يقام عليه سوى دولة واحدة ديمقراطية تضمن تحقيق الأمن والسلم في فلسطين والمنطقة للجميع وتنهي حالة التوتر والعنف وعدم الاستقرار السائدة، لأن الفلسطينيين ومعهم أشقاؤهم العرب لن يقبلوا بدوام دولة عنصرية دينية يهودية فوق إقليم فلسطين، كما أن دول أوروبا نفسها التي صنعت المستعمرة الصهيونية لا تستطيع الدفاع عن مثل هذه الدولة العنصرية واستمرار تبرير سياساتها، فكما تخلت سابقا عن صنيعتها الكيان العنصري المقبور في جنوب القارة الإفريقية لابد أن تتخلى أيضا عن دعمها وتأييدها للدولة اليهودية العنصرية في فلسطين.. لما تمثله من تهديد للسلم والأمن ولتناقضها مع قيم الحضارة الإنسانية ومفاهيم الدولة الحديثة التي ترسخ قيامها على أساس من المساواة والعدل والحرية، وأن الرابط بين الدولة والفرد وسكانها في أي دولة هو رابط المواطنة وليس أي رابط آخر...
** **
- عضو المجلس الوطني الفلسطيني