د. غالب محمد طه
في مقال سابق بعنوان «فسيفساء الوحدة بين المذاهب الإسلامية»، سلطنا الضوء على مكانة مكة كمركز روحاني يجمع المسلمين من مختلف المذاهب. مكة، بفضل مكانتها الدينية والرمزية، أصبحت رمزاً لبناء جسور التواصل بين المذاهب الإسلامية. اليوم، تبرز مكة مجدداً كمركز إستراتيجي من خلال استضافتها للمؤتمر التاسع لوزراء الأوقاف والشؤون الإسلامية، حيث جاء شعاره متسقاً مع الدور العظيم لوزارات الشؤون الإسلامية والأوقاف في تعزيز مبادئ الوسطية وترسيخ قيم الاعتدال.
وها هي مكة مرة أخرى تستضيف، وفي ذات المكان المبارك، المؤتمر التاسع لوزراء الأوقاف والشؤون الإسلامية، جاءت المشاركة الرفيعة في المؤتمر من وزراء ومفتين ورؤساء مجالس إسلامية من 62 دولة، لتؤكد الدور الإستراتيجي لمكة في تعزيز الوحدة الإسلامية وتجديد التزام المملكة بجهودها المبذولة في تعزيز الوسطية والاعتدال وخدمة الإسلام والمسلمين والبشرية جمعاء.
انعقد المؤتمر تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين في وقت يواجه فيه العالم الإسلامي تحديات معقدة. لم يكن الحدث مجرد تجمع دبلوماسي، بل كان تجسيداً للرؤية المشتركة لمواجهة الأزمات المعاصرة. المؤتمر قدَّم رؤية إستراتيجية شاملة تتجاوز الخطابات لتتناول أبعاداً عميقة تتعلق بتحديث الخطاب الديني وتعزيز الوسطية، مما يبرز أهمية التحول نحو خطاب ديناميكي يتفاعل مع القضايا المعاصرة.
إن المتمعن في أهداف المؤتمر وتوصياته، يدرك تأثير هذه المبادرات على المستوى الإستراتيجي والعملي. التحديات التي ناقشها المؤتمر تتجاوز مجرد الخطابات؛ فهي تتناول أبعادًا عميقة تتعلق بتحديث الخطاب الديني وتعزيز الوسطية. إذ أظهرت التوصيات ضرورة تصحيح المفاهيم الدينية المغلوطة وتطوير إستراتيجيات التعليم الديني لتلبية احتياجات العصر. هذا الأمر بالضرورة يتطلب من الدول الإسلامية تعزيز برامجها التدريبية للأئمة والخطباء لضمان توافق الخطاب مع القيم الإنسانية العالمية، مما يبرز أهمية التحول نحو خطاب ديناميكي وواقعي يتفاعل مع القضايا المعاصرة.
كان التعاون الدولي محوراً أساسياً في التوصيات، مما يعكس فهمًا عميقًا لحاجة الأمة الإسلامية إلى تنسيق الجهود لمواجهة التحديات المشتركة. يتطلب استثمار هذا التعاون بناء شبكات فعَّالة بين الدول الأعضاء وتبادل الخبرات لتطوير إستراتيجيات موحدة لمكافحة التطرف. هذا التعاون ليس مجرد تبادل للمعرفة، بل هو استثمار في تحسين البرامج التعليمية وتعزيز الفهم المشترك لقيم الوسطية والتسامح، مما يسهم في تحقيق استقرار طويل الأمد في المجتمعات الإسلامية.
إحدى النقاط الجوهرية التي شدد عليها المؤتمر هي ضرورة مواجهة خطابات الكراهية ضد الإسلام والمسلمين ووضع برامج ثقافية ورؤى مستقبلية لمناهضة تشويه صورة الإسلام والتحريض على العنف على أساس الدين أو العرق. وفي هذا الإطار، رحب المؤتمر باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بشأن «تدابير مكافحة كراهية الإسلام» وتعيين مبعوث خاص للأمم المتحدة معني بمكافحة الإسلاموفوبيا. استثمار التوصيات في المستقبل يتطلب وضع إستراتيجيات طويلة الأمد لضمان تحقيق الأهداف المرسومة. يشمل ذلك تطوير خطط عمل محددة لتنفيذ التوصيات المتعلقة بالفتوى وتعزيز قيم التسامح، مع وضع مؤشرات قياس لنجاح البرامج التعليمية والتدريبية ومتابعة أثرها. يجب أيضًا التعاون مع الدول الإسلامية الأخرى لتأسيس شبكة دعم عالمي تعزِّز من تبادل المعرفة والخبرات. من خلال تفعيل هذه الإستراتيجيات، يمكن تحقيق تقدم ملحوظ نحو تعزيز الوحدة والاستقرار في العالم الإسلامي، مما يعكس الرؤية المستقبلية للمؤتمر ويعزِّز من تأثير مكة كمركز عالمي للتفاهم والتعاون.
يتضح أن المؤتمر قد وضع خريطة طريق واضحة لتعزيز مبادئ الوسطية والاعتدال في العالم الإسلامي. تميز المؤتمر أيضًا بتأكيده على دور الأوقاف في التنمية المستدامة. والتركيز على استخدام الأوقاف لدعم المشاريع التنموية يعكس تحولاً في كيفية توظيف الموارد لتحقيق أهداف اجتماعية واقتصادية أوسع. هذا التوجه يمكن أن يسهم في دعم التعليم والصحة والبنية التحتية، مما يعزّز قدرة المجتمعات الإسلامية على تحقيق الاستقرار والتقدم.
أما في مجال الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن التوصيات تشير إلى أهمية استثمار هذه الأدوات لنشر رسالة الإسلام السمحة. التأثير الكبير لوسائل الإعلام في تشكيل الرأي العام يتطلب إستراتيجيات فعَّالة لنقل قيم الإسلام بشكل إيجابي ومؤثّر، وهو ما يعزّز أهمية التفاعل الإستراتيجي مع وسائل الإعلام الحديثة.
باختصار، فإن المؤتمر التاسع لوزراء الأوقاف والشؤون الإسلامية يمثّل خطوة إستراتيجية نحو معالجة القضايا المعاصرة التي تواجه الأمة الإسلامية. التوصيات التي خرج بها المؤتمر تتطلب تنفيذًا فعّالاً يساهم في تحقيق أهداف الوسطية والاعتدال، وتعزيز التعاون بين الدول الإسلامية، ومواجهة التحديات العالمية بطرق مبتكرة. المؤتمر أكد أيضًا على موقفه الثابت من القضية الفلسطينية، داعيًا إلى دعم حقوق الشعب الفلسطيني وحمايته من الاعتداءات الوحشية، مؤكدًا على ضرورة إنهاء العدوان على غزة ودعم حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. إن هذا الموقف يعزّز من دور مكة كمركز عالمي للعدل والتسامح.
هذه التوصية تبرز التزام المؤتمر بالقضايا العادلة على الساحة الدولية وتعتبر دعوة قوية للمجتمع الدولي ومنظمات الإغاثة لدعم الشعب الفلسطيني. إن هذا الموقف يعكس عمق العلاقة بين القضايا الإسلامية الكبرى والتزام المؤتمر بتحقيق العدالة والحقوق المشروعة للشعوب المضطهدة، وهو ما يعزِّز من دوره كمنبر عالمي للعدل والتسامح.
وستظل مكة المكرمة، مهبط الوحي ومنزل القرآن الكريم، في لعب دورها المركزي في تعزيز القيم الإسلامية وتعزيز الفهم المشترك بين المجتمعات الإسلامية تفتح أبوابها إلى يوم الدين، وتطفئ أشواق محبيها من مشارق الأرض ومغاربها، وتشع بالمحبة والسلام والوسطية، مرسلة رسالة الإسلام السمحة إلى مختلف أصقاع الأرض.