رقية نبيل عبيد
مجددًا، تحكي لنا باولا هاوكينز عن نساء لندن الضائعات! عن هؤلاء المجهولات اللواتي لا يكاد أحد ينظر نحوهن مرتين! في مقتبل العمر، في أوسطه، في أرذله! وكلهن يجمعهن رابط واحد، الوحدة وإساءة الظن بهن! وهكذا يصير الكل على أتم الاستعداد لتوجيه أصابع الاتهام إليهن عند أول بادرة لجرم ما، «لقد كانت دائمًا غير متزنة سيدي الضابط» «لقد قُبض عليها في أمور مشابهة كثيرًا من قبل» «لقد كانت وحيدة دومًا ترمق العالم بعيني سوداوين كبيرتين»!
والكاتبة تستميت في سبيل تسليط الضوء عليهن، هن هنا! مرئيات وموجودات ومحتاجات إلى تفهم العالم وقبوله، والظروف التي مضغت أعمارهن وبصقتهن عظامًا تتحرك على هذه الشاكلة هي ما ينبغي توجيه أصابع الاتهام إليها، هي ما ينبغي العمل على تغييرها، العمل على محوها بالكلية واستبدالها لا النسوة ذاتهن.
في قالب إثارة وجريمة وغموض وركض وتشويق تحيك الكاتبة الخيوط حول قصصهن، وكأنها تعلم أن القراء إذا ما عرفوا أن القصة تحكي عنهن سيهجرونها من أول سطر، سيقلبون الصفحات لتجاوزهن سريعًا، سيلقى بالكتاب والقصة على أول رف يكسوه الغبار، لذا كان هذا القالب القصصي المشوق، وباولا بارعة كل البراعة في هذا الجانب بارعة في اصطياد الغموض وتأطيره وإقحامه في قصصها، لكنها تُشعرني دومًا أن المأساة الاجتماعية هي التي بحق تقصد الكتابة عنها، وفي قلب هذه المأساة في المنتصف منها تمامًا تقع الكحوليات وإدمانها، دائمًا تكون هذه اللعنة هي الشرارة الأولى التي تذكي المأساة وتضرم فيها النيران حتى تستعر وتحرق صاحبها، وبالمثل هكذا كانت روايتها الرائعة «على نار هادئة».
لورا في الخامسة والعشرين، تعرضت في طفولتها لحادثة وخذلان عاطفي رهيب من والدتها، لورا وقعت وما وجدت من يمسك بها، ينصحها يقودها يرشدها يربت عليها، أي شيء! وهكذا حينما تقع جريمة قتل وتكون لورا آخر شاهدة رأت القتيل حيًا تصبح فورًا أول المشتبه بهم.
بطريقة تعدد الشخصيات تسرد لنا باولا وقائع وملابسات هذا الغموض المثير، كل بطلة تحكي ما يقع لها، هكذا تجتمع خيوط رواياتهن معًا لتكشف الغموض خطوة خطوة.
حين يتيه العقل، وتفقد الذاكرة كل شيء يصبح غائمًا مشوشًا، كل شيء يمكن أن يكون أو لا يكون، ظلمة فظيعة يتخبط فيها صاحب العقل المغيب، نفق لا مخرج منه! مرةً بعد مرة توقعنا باولا في هذه الحيرة، تجعلها تتلبسنا وتربطنا بكفن أبيض تاركة إيانا لنتيه كما تتيه بطلاتها.
في النهاية يبقى المغزى واحد، والمعنى واحد، والصرخة واحدة، صرخة استرحام لهؤلاء النسوة ومحاولة الأخذ بأيديهن وتفهمهن بدلًا عن ازدرائهن ونبذهن!