د. تنيضب الفايدي
كان الكاتب في سفرٍ دائم قبل أكثر من أربعين عاماً أي: أيام الشباب -ويا ليت الشباب يعود يوماً- وقد وجد وادياً يسمّى عرعر أقرب إلى العلا منه إلى المدينة، كما أن هناك وادياً جنوب مكة المكرمة يُسمى وادي عرعر قال الشاعر:
فلو أسمع القوم الصراخ لقوربت
مصارعهم بين الدخول وعرعرا
وأدركهم شعث النواصي كأنهم
سوابق حجاج توافي المجمّرا
وتذكّر الكاتب عرعر المدينة الغالية في الحدود الشمالية آنذاك، هذه الحدود التي تمثّل الحضن الآمن للوطن الغالي، وتذكّر في وقتها بيت امريء القيس الذي يذكر صاحبته سُلَيْمَى:
سما لك شوقٌ بعد ما كان أقصرا
وحلَّت سُليْمى بطن قوٍّ فعرعرا
كِنانِيَّةٌ بانَت وَفي الصَدرِ وُدُّها
مُجاوِرَةٌ غَسّانَ وَالحَيُّ يَعمُرا
والحدود الشمالية ترقد على كنوز تاريخية في مواقع متعددة مثل: بدينة، ووادي الخشيبي، وبدنة، ووادي الشاظي، ودوقرة، إضافة إلى المواقع التي تقع على درب زبيدة التي تمرّ بالحدود الغالية،و هناك آثار قبل طريق زبيدة، حيث وجدت الشواهد في الاستيطان البشري ترجع إلى فترة العصور الحجرية، مثل: الدوائر والأدوات الحجرية التي عثر عليها في وادي عرعر ووادي الشاظي، كما أن هناك شواهد للكتابات القديمة والرسومات الصخرية ترجع إلى ما قبل الإسلام، ولعلّ موقع لينة من المواقع الهامة إذا ما تمّ تتبع المواقع التاريخية، نجد أن لينة من أقدم المواقع في الجزيرة العربية، فقد وجدت في جنوب لينة منشآت حجرية وأساسات جدران وأدوات حجرية تدلّ على تاريخها القديم، وبالقرب من لينة موقع أثري وهو منطقة تلال تشتمل على مجموعة من المنشآت والدوائر الحجرية التي يبلغ ارتفاعها نحو 40سم وبسمك يصل إلى نحو متر واحد. وقد عثر في الموقع على مجموعة من الأدوات الحجرية الدقيقة الصنع المتمثلة في الشفرات والمكاشط، بالإضافة إلى رأس سهم من الصوان الأحمر.
وتربطها بعض المصادر مثل الحموي بعهد سيدنا سليمان عليه السلام، ففي لينة حوالي 300 بئر قديماً يقال بأن تلك الآبار حفرتها شياطين سليمان عليه السلام، وأرضها على لجة من الماء.
ولينة في اللغة العربية تعني كرائم النخل، ولاسيما الصغير منها، ووردت كلمة لينة في القرآن الكريم قال تعالى: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} سورة الحشر الآية (5)، وتقع مدينة لينة جنوب محافظة رفحاء، وتحتل مكاناً استراتيجياً لوقوعها بين منطقة حائل والحدود الشمالية،وقد ذكرها عددٌ من المؤرخين، يقول الحموي: « لينة بالكسر ثم السكون، قال المفسرون في قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ} كل شيء من النخل سوى العجوة فهو من اللِّين، قال الزجاج: اللينة الألوان، والواحدة لونة فقيل لينة، بكسر اللام، ولينة: موضع في بلاد نجد عن يسار المصعد بحذاء الهُرّ وبها ركايا عادية نقرت من حجر رخو وماؤها عذب زلال، وقال السكوني: لينة هو المنزل الرابع لقاصد مكة من واسط وهي كثيرة الركيّ والقُلْب، ماؤها طيب، وبها أحواض للماء».
كما وردت لينة في الأدب ولاسيما الشعر، قال الأشهب بن رميلة:
ولله درّي أيّ نظرة ذي هوىً
نظرت ودوني لينة وكثيبها
وقال مضرّس الأسدي:
لمن الديارُ غشِيتُها بالإثمدِ
بصَفاء لينة كالحمام الرُّكدِ
أمست مساكن كل بيض راعة
عجل تروّحها وإن لم تطرد
صفراء عارية الأخادع رأسُها
مثل المدُقّ وأنفها كالمِسرَد
وسِخالِ ساجية العيون خواذل
بجِماد لينة كالنصارى السُّجَد
يقول الحموي: «تزوجت امرأة من بني عبس في بني أسد ونقلها زوجها إلى ماء لهم يقال له لينة، وهو موصوف بالعذوبة والطيب، وكان زوجها عنّيناً (أي: لا يستطيع الجماع) ففركته (أي: كرهته) واجتوت الماء (أي: كرهت الماء مع عذوبته)، فاختلعت منه وتزوجها رجل من أهل بقعاء فأرضاها فقالت:
فمن يُهدِ لي من ماء بقعاءَ شربةً
فإنّ له من ماء لينةَ أربعا
لقد زادني وَجْداً بقعاء أنني
وجدت مطايانا بلينةَ ظُلَّعا
فمن مُبْلغ تِرْبيَّ بالرمل أنني
بكيتُ، فلم أترك لعينيَّ مَدْمعا
وهناك بقايا لسوق يعتبر حديثاً 1352هـ، وقد عملت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني على المحافظة على بقايا السوق، إضافة الدكاكين الطينية، وقصر الإمارة التاريخي القديم، والمسجد القديم.
أدت بلدة لينة دورها الفاعل في العصور الإسلامية المبكرة بحكم قرب موقعها الجغرافي من مسار درب الحاج العراقي، وكانت في الماضي القريب حاضرة مهمة من حواضر الحدود الشمالية ونقطة التقاء لبادية المنطقة لتوافر الماء في ربوعها، ومن ثم اتخاذها من قبل السكان المحليين سوقاً ومركزاً للتبادل التجاري بين تجار المنطقة وتجار نجد (العقيلات) المشهورين وبلاد العراق.
كل ما سبق من المآثر التي تنتشر في الحدود الشمالية تدل على أن هناك حضارات قبل التاريخ الميلادي وفي الفترات الإسلامية وجدت آثار متعددة أخرى، أبرزها تلك المعالم التي وجدت في طريق الحاج العراقي، حيث درب زبيدة.
درب زبيدة
ينسب الدرب إلى زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور المولودة عام 165هـ/ 762م، وزبيدة لقب لها كناية عن جمالها وحسن قوامها، وهي زوجة أمير المؤمنين هارون الرشيد، وأم ولده الأمين الذي ولي الخلافة بعد أبيه وترجع شهرة السيدة زبيدة إلى حبها لأعمال الخير والبر، وبخاصة عنايتها بطريق الحج، واهتمامها بتعبيده، وحفر الآبار عليه، وبناء البرك به، وتوفير الماء لحجاج بيت الله الحرام، حتى غلبت شهرتها على الطريق فصار يعرف باسمها. كذلك حفرت العيون، ولا تزال عين زبيدة في مكة المكرمة تعرف باسمها.
وأهم المواقع لدرب الزبيدة فيما يتعلق بمنطقة الحدود الشمالية بركة الحمراء (الرستمية)، مواقع الشيحيات، العصافير (ذات التناتير)، الشاحوف (الرضم)، برك للحاج بوادي الزبالة، الجلبابي (القبيبات)، بركة الجميمة (الجريسي)، الثليمة (الهيثم)، قباب خالصة، القاع، العمياء، الظفيري. وفيما يلي أهم الصور للبرك التي تقع على طريق الحاج (درب زبيدة) عند مرورها بالحدود الشمالية.
قصر الملك عبد العزيز - رحمه الله
يتوسط قصر الملك عبدالعزيز آل سعود مدينة «لينة»، وتم إنشاؤه عام 1354 - 1355هـ بعد توحيد المملكة ليكون مقرا للإمارة، وتبلغ مساحة القصر 4000 م2، وبني من الطين واللبِن والحجارة، ويضم سورا في أركانه 4 أبراج دائرية الشكل تستخدم للحراسة والمراقبة، وتتوسطه بوابة كبيرة مصنوعة من الخشب، ومن الداخل غرف خاصة لسكن الملك عبدالعزيز وأسرته، وأخرى خاصة للضيافة واستقبال الضيوف، بجانب مسجد صنع سقفه من سعف النخيل، وبئر قديمة، ومكان مخصص للخيول، وفناء واسع تطل عليه معظم الغرف.ولا يزال القصر شامخًا بإطلالته وطرازه المعماري القديم.
سوق المشاهدة
من أهم ما يميز منطقة لينة هو سوق أثري كبير يطلق عليه (سوق المشاهدة) نسبة إلى تجار العراق المشاهدة (القبيلة الشهيرة بالعراق) الذين كانوا يأتون لهذا السوق للتبادل التجاري مع أهل نجد و مازال هذا السوق متمسك بعراقة الماضي و أصالة التاريخ.
وأخيراً فإننا عندما نذكر أياً من المواقع من الوطن الغالي فإنما نسهم في إلقاء الأضواء على جزء غالٍ من نسيج الوطن، لا لنذكر أهميته وأهمية موقعه، فكلّ ذرة من تراب الوطن هامة غالية ولكن لنذكر بعض الآثار للتأكيد على أهمية المحافظة عليها و العمل على صيانتها ونقلها لأبنائنا وبناتنا وتطبيق الأبحاث العلمية وإبرازها للأجيال اللاحقة، ولكي نفتخر بأن مثل هذه المواقع في وطننا الغالي.
العين بعد فراقها الوطنا
لا ساكناً ألفت ولا سكنا