عبدالمحسن بن علي المطلق
مدخل
أولاً هذه الأسطر ليست مدحاً محضاً، بل هناك لو قلت فيه فهو كالمُشبع بالمديح -حقيقة-، وهنا فأنت لا تزيده إن لم يكن لا يحفل به، سوى ما تؤكّد على ما سُبقت له فحسب وإلا فمن رصيده - مثلاً- ملايين بربك! ماذا سيقدّم له ربحه مليوناً آخر سوى زيادة رقم عند البنك، لا أكثر إلا إن مقالتك أو خانتها الحقيقية هو في تسليطك الضوء.. مضيّاً تلقاء مرام قولهم (..واسمعي يا جارة).
فأنت وحين تورد خصالاً امتثل بها شخص ما، لتقدم في خضمّ ما تطرح ما هو ماثل، كي لا يُقال إنك تطالب بمثالي بَعيد شقّة تحصيلها
فهذا فلان فيه وهو فيه من البشرية مثلنا، إلا أنه سما -أو حاول- فطاول، أقصد نال بعد جهاده نفسه غالب تلكم، ولن أُجازف بالقول (..كلها).
والغالي القاضي «أبو بدر» من أولئك، حين أجاد في مسكه العصا من النصف، فلا تجد فصيلاً أخذ عليه معتبة، وفي هذا دلالة أخرى على دعوة ديننا للوسطية، والتي بالمناسبة لا تعني الوسط مكاناً! بل التوسّط، كـ.. بين الجافي والغالي، وبين المفرط والمفرّط..، وهلم جرا.
وهذا المنحى نوع من الطريق الوعر الذي من سلكه قلّ ما يجيد فيه القيادة، إذ حظّ النفس إلا وفي موقف ما سيبرز، ويكون بالمرصاد.. أقصد بمواقف تنتصر له نفسه الضعيفة، لتهوي بمركبته!
فـ(القاضي) قليل جداً من لا يتفق على دماثته، وسحنته الطيبة، عدا فرط حبّه للخير وبالتأكيد للغير، ما لا أحسبني مُتكلفاً إن قلت يوافقه (عجز) هذا البيت:
زر دار ودّ إن أردت ورودا
(زادوك ودّا أن رأوك ودودا)
فوصفه للعزاء بالميت «الجزيرة» العدد 18710 في مادة مفاضلة عن العزاء وهل بالمسجد أفضل أم بالمقبرة؟
فبدأ بـ..(أنه لا يقارن بأي مناسبة أُخرى) نعم، فهو لا يأتي بموعد مضروب، لكن ظرف بلا مقدمات حلّ! وبالتالي ليس هناك أي مجال، لا لتأجيله.. ولا التماهل به، هذا أولاً.
وثانياً أن ليس فيه تكلّف -أو هذا هو الأصل-، على أن بعض «الأسر» يضعون بعض احتياطات (وهم معذورون)، خصوصاً إن كان الراحل ذا مقام ويُنتظر للعزاء بمثله الوجهاء الذين إلا وسيتقاطرون..
وهنا تجد أهل الراحل سيأتون بسجاد أو كراسي إضافية، بالإضافة لجلب (من يقوم بإعداد القهوة..) ... إلخ.
والثالث أنه ليس موعد مطعم، إلا إن حضر المعزّي بعد العشاء والعشاء - الطعام- قد أعدّ هنا لا بأس، ثم لا ننسى أنه صادر لنوع من الوشائج، وبالتحديد ممن لا ينتمون لأُسرة الميت.. كمن يعرّف به أنه صاحب المرحوم (الروح بالروح)، بالمناسبة يُقال المرحوم، دعاء، وفألاً.. والتي ستحضر لها رافداً في النص النبوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجلٍ يعوده، فقال: (لا بَأْسَ طَهُورٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَالَ: كَلَّا، بَلْ حُمَّى تَفُورُ، علَى شيخٍ كَبِيرٍ، كَيْما تُزِيرَهُ القُبُورَ، قَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فَنَعَمْ إذًا) البخاري -رحمه الله.
المهم بالفعل هي مناسبة تختلف جعلها الله كأحد حقوق المسلم على أخيه، فيما يتعزّز الندب إليها إن كانت أخوّة وصُحبةً، فضلاً إن كان قريباً. وهذا (العزاء) لعله آخر خيوط الارتباط بالميت، الذي جمعك به صداقة، أو (موقف) له عندك لا يُنسى..
بل بعضهم تذكر لأعماله (جهده) معك الوظيفي.. وليس بينكما أي علائق أُخرى، وأذكر هنا فقيد أُسرتي عبدالله الصالح - المطلق- كان فقط يقال له أنا أعرف فلان (من أحد المعارف.. وليس شرطاً من المطلق) إلا وهبّ ليس لخدمته.. بل إنجاز معاملته (بالطبع وِفق النظام)، لكنه يوفر عليه الجهد والوقت، ولهذا فقد فُقد، أي ذهب يوم ذهب إلى ربّه.. ولم تذهب سيرته
وهنا أو بمثل هذه اللقطات التي يحضره لفيف الميت نوع من حضور لقدره بقلوبهم، فعلامَ البعض يستسهل هذا أو يستقلّ من شأنه الغزير..
ثم كلقطة أخيرة أن العزاء هو تعبير لتوجّع ونزف عواطف وشيء من الإقرار الذي عليه استقرار القول به، وإن كان ضمنياً في الباطن على ما يعلو النفوس من أنه وكما نسج المعري بما يوماً حفرت للفراق خدوداً، كما علّمت بالشعر من معالمٍ.. ثرية الدلالات، في (داليته/):
وَانْتَهَى الْيَأْسُ مِنْكَ وَاسْتَشْعَرَ الْوَجْـ
ـدُ بِأَنْ لَا مَعَادَ حَتَّى (الْمَعَادِ)
والموضوع يطول، ومشوّق لكن حسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق ومن الماء ما يسدّ الرمق.