حنان بنت عبدالعزيز آل سيف
رجل موريتاني قح، من صميم موريتانيا لغة وعادة ومنشأ ومسلكاً، عاصفة علمية بحتة هبت على الأزهر النضير من بوادي شنقيط، صحح القواميس وأمهات اللغة وكتب الأدب ودواوين الشعر.
لغوي محنك ذاع صيته، وعمّ علمه، ومازه أهل عصره، هو الأستاذ العلّامة الحجة شيخ اللغويين، وإمام المريدين، أمير ومستشار وشاعر وفي كل وادٍ بنو سعد هو محمد بن محمود بن أحمد بن محمد التركزي الشنقيطي (1245 - 1322هـ/ 1829 - 1904م) عرف بابن التلاميد أو ولد التلاميد، ولقب نفسه بقتيل المخصص، شهيد الكتب، أو قتيلها وقد ألمح هذا حينما بكى نفسه ونعى ذاته قائلاً:
ذكرت من يبكي عليّ فلم أجد
سوى كتب تختان بعدي أو علي
مخصصها المطبوع يشهد مفصحاً
بحفظي عند الحذف والبتر الخرم
وقاموسها المشهود يشهد بالضحى
بذاك وفي بيض الليالي وفي الدهم
وكان -رحمه الله- سليل أسرة علمية مؤصلة، جاءت في ناصية الأسر العلمية المشهورة، حيث قرأ على أبيه وبعض أقاربه، وأشار إلى هذا في ميميته التي نظمها لمؤتمر العلوم الشرقية باستكهولم حين فخر بنفسه فقال:
غذاني بدر العلم أرأف والد
وأرحم أم لم تبتنى على غم
ولم يفطماني عنه حتى رويته
عن الأب ثم الأخ والخال والعم
كما لازم الشيخ عبدالوهاب الملقب بأجدود، وعليه تخرج، ثم تلقى الحديث عن ابن بلعمش الحلبي، وعرف بابن التلاميد هكذا بالدال المهملة، وسببه ما ذكره العلامة أحمد تيمور باشا في كتابه: (أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث) وذلك حينما أطراه بقوله:
اشتهر والده بالتلاميد بالدال المهملة، وسبب ذلك على ما أخبرني به أنه كان يقرئ تلاميذه في خيمة انفرد بها، فكان كل من يسأل عنه يقول: أين خيمة التلاميد؟ ثم أطلق هذا اللقب عليه، ونعته الكتاب المشار إليه بقوله: (كان رحمه الله نحيفاً أسمر اللون، شديد التمسك بالسنة قوالاً للحق ولو على نفسه مع حدة طبع زائدة، ولهذا لم ينتفع به إلا القليلون).
والأديب الذائع أحمد حسن الزيات نعته في كتابه «ذكرى عهود» بقوله: (لم أكن رأيت الشيخ من قبل، كان شخصاً ينصرُّ كما يقولون في صُرة، هيكل ضئيل، وبدن نحيل، ووجه ضامر ولون أخضر، وصوت خفيض، فمن يراه أول مرة لا يصدق أن هذا الجرم الصغير قد جاب البر والبحر، وطاف الشرق والغرب وكافح الأنداد والخصوم، ووعى صدره الضيق معاجم اللغة وصحاح السنة ودواوين الشعر وعلوم الأدب، وكان يلبس قفطاناً أبيض من القطن، ويرتدي جبة دكناء من الصوف، ويعتم عمامة مكية قد أرخى لها عذبة على ظهره).
هذا وقد وصف تلميذه العلامة المحنك أحمد تيمور باشا رحلته العلمية فقال: (رحل إلى المشرق وحج واجتمع بأمير مكة الشريف عبدالله بن محمد بن عون، فأكرمه وطلب منه البقاء عنده فأجاب، وكانت تقع بينه وبين علماء مكة والواردين عليها مناظرات ومحاورات علمية في مجلس الأمير، وصار يتردد في الإقامة بين مكة والمدينة إلى أن قصد القسطنطينية فأكرمه السلطان عبدالحميد وعرف قدره، وأوفده سنة 1304هـ إلى باريس ولندن والأندلس للاطلاع على ما في خزائنها من الكتب العربية النادرة وتقييد أسماء ما يوجد منها بخزائن القسطنطينية لتستنسخ فسافر على باخرة خاصة، وكان ينزل حيثما حل بدور السفارات العثمانية ولكن المشروع أهمل بعد عودته، ثم لما شرع الملك اسكار الثاني ملك السويد والنرويج في عقد المؤتمر الثامن من العلوم الشرقية استكهولم سنة 1306هـ وطلب من السلطان عبد الحميد أن ينتدب الشيخ إليه، فانتدبه مع مدحت أفندي الكاتب التركي الشهير، ونظم الشيخ قصيدته الميمية ليقدمها للمؤتمر وأولها:
ألا طرقت ميّ فتى مطلع النجم
غريباً عن الأوطان في أمم العجم
ذكر بها سبب هذه الرحلة إلى المشرق، وضمنها مسائل علمية، ورثى نفسه فيها، وختمها بذكر القبائل العربية المشهورة، ولكنه لم يسافر لاشتراطه شروطاً أغضبت السلطان، فأمر بسفره إلى المدينة، ومنها قدم إلى القاهرة وألقى بها عصا التسيار، واستحضر أهله وكتبه من المدينة، وأقبل على المطالعة والإفادة).
هذا ولقد لقي حفاوة واكراماً من علماء مصر كالشيخ محمد عبده، والشيخ محمد رشيد رضا، والعلامة أحمد تيمور باشا، كما أعجب به رواد النهضة الأدبية الحديثة مثل طه حسين حيث ذكره في سيرته الذاتية «الأيام» ووصفه في صحيفة الديار المصرية بقوله: (كان أولئك الطلبة الكبار يتحدثون بأنهم لم يروا ضريباً للشيخ الشنقيطي في حفظ اللغة ورواية الحديث سنداً ومتناً عن ظهر قلب).
والأديب أحمد حسن الزيات ذكره في سيرته الذاتية بقوله (كان ابن التلاميد آية من آيات الله في حفظ اللغة والحديث والشعر والأخبار والأمثال والأنساب، لا يند عن ذهنه من كل أولئك نص ولا سند ولا رواية، وكان شموس الطبع، حاد البادرة، قوي العارضة، يجادل عن نفسه بالجواب الحاضر والدليل المفعم واللسان السليط، وكان لا ينفك يتحدى رجال اللغة بالمسائل الدقيقة، والنوادر الغريبة، مستعيناً على جهلهم بعلمه، أو على نسيانهم بحفظه، حتى هابوا جانبه، وكرهوا لقاءه، وأصبحت حياته سلسلة من الخصومات الأدبية سجلها بالشعر اللاذع والنثر القارص في كتابه «الحماسة»).
ولما قصد المدينة لم يكن على وفاق مع علمائها فسعوا لإخراجه، فنزل عند نقيب أشرافها محمد توفيق البكري فبالغ في إكرامه واستعان به على تأليف كتابه «أراجيز العرب»، ثم طبع الكتاب منسوباً إلى البكري وحده فغضب الشنقيطي وفارقه ووصل الخلاف إلى القضاء، واتصل بالشيخ محمد عبده فوجد منه أدباً وحدباً وسعى إلى الأوقاف حيث أجرى عليه رزقاً، فأحب القاهرة وأكمل حياته فيها.. يقول الزيات عن الإمام محمد عبده والعلامة الشنقيطي الآتي: (وكل إليه (يعنى الإمام) إحياء الأمهات العربية الكبرى، فنشر (المخصص) وحرر «القاموس» وأملى الأراجيز).
ويشير إلى صداقته وعلاقته بالشيخ محمد عبده في قصيدته الميمية المطولة التي رثى فيها نفسه:
فقال: وغير الفتى المفتي محمد عبده
صديقي الصدوق الصادق الود والكلم
فعصم العلوم كنت أنزلها له
إذا اعتاص أورها على كل ذي فهم
وكان على حد قول العلامة أحمد تيمور: لا يمل المطالعة ليلاً ونهاراً حتى اضنته كثرة الجلوس وسببت له أمراضاً وآلاماً، ولا سيما لما اشتغل بتصحيح المخصص، وأنه كان يقابله مع شخص آخر بمكان رطب في الطبقة السفلى من داره، فاشتد به مرض الصدر وألم الرثية في أطرافه، وكثيراً ما كان يقول:
(أنا قتيل المخصص، أنا قتيل الكتب).
وكان شاعراً مفلقاً يحتذي حذو الشعراء الذين يسيرون على منهج القصيدة العمودية، قالوا في شعره إنه طرق الغزل، والفخر والعتاب، والهجاء، عني بوصف مخترعات العصر الحديث مثل القطار، وله قصائد إخوانية، كما كان له ردود على من خالف سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
شعره طويل مديد، ولغته فصيحة بليغة، وخياله منطلق فسيح واسع مجنح، وله قصيدة باسم: (هجرة وحنين) قالها حينما تيمه الشوق، وأضنت لبه الصبابة فقالها في الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
أحن إلى الرسول فيعتريني
إذا ليلي دجا ما يعتريني
فيتقد اشتياقي في فؤادي
فيطربني إليه ويزدهيني
أئن على المهاد بُعيد وهن
فيزعج من يضاجعني أنيني
إذا ما الليل جنّ عليّ
أؤوه آهة الوصب الحزين
تعلم أن تقوى الله دينٌ
به نُعطي ونأخذ باليمين
ومن قصيدة (رحلة إلى بلاد الأندلس) يقول:
يا ريح طيبة هبي لي صباحا مسا
واستصحبي من أريج المصطفى نفسا
واستصحبي من عبير الصاحبين شذا
يفوق مشموهه الشموم والهبا
هذا وقد ترك إرثاً عربياً وتراثاً لغوياً ومن كتبه ساهم في تشكيل لغة العصر الحديث، وبث في عروق المجتمع شهداً علمياً دؤوباً أضاء الطريق لكثير من مريدي العلم وعشاق الأدب، وكان يدلي بتحليلات لغوية نحوية وأدبية شعرية عميقة واختيارات علمية يركز فيها على الرأي الذي يعتقده ويشهد بصحة مذهبه، وتعد كتبه مصدراً لكل عالم وباحث ودارس ملهم ومسهب، وتمنح كتبه كل من اللغويين والأدباء فهماً عميقاً في فلسفة اللغة العربية بشقيها النحو والأدب، كما أن كتبه تظهر الإرث اللغوي الادبي الثقافي العميق الذي يحمله بين جنبيه ومن كتبه ما يلي:
- إحقاق الحق وتبرئة العرب مما أحدثه عاكش اليمن في لغتهم.
- طهارة العلم.
- رسالة في مسألة صرف عمر.
- عذب المنهل في مسألة صرف ثعل.
- عروس الطروس.
- شرح المفصل في النحو.
- هوامش على كتاب الخصائص لابن جني.
- تحقيق على المعلقات السبع مع ذكر رواياتها وأنساب قائليها.
- تصحيح أساس البلاغة للزمخشري.
- تصحيح القاموس المحيط.
- تصحيح المخصص لابن سيدة.
- تصحيح الأغاني.
- الحماسة السنية الكاملة المزية في الرحلة العلمية التركزية الشنقيطية.
- ديوان قصائد يضم 1000 بيت.
وبعد سنين مليئة مفعمة بالحياة والعلم والمعرفة، توفي بدار سكنه القريبة من أزهر مصر قبيل الغروب من يوم الجمعة 23 شوال 1322هـ، عن سن عالية ولم يمرض إلا الأيام القليلة وكان ذلك بعد تشييعه جثمان صديقه الحميم الشاعر الكبير محمود سامي البارودي.
رحم الله حبر موريتانيا العلامة الحجة الثقة محمد بن محمود التركزي الشنقيطي على ما أسداه للقرآن والسنة والعربية من قول صائب، وعمل خالص وغيرة صادقة.
مصادر المادة:
- أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث للعلامة أحمد تيمور باشا.
- من هو ابن التلاميد؟ - الجزيرة 27 شوال 1442هـ.
- ذكرى عهود، لأحمد حسن الزيات، تحرير د. عبد الرحمن بن حسن قائد.