مشعل الحارثي
من ذكريات الطفولة بالطائف المأنوس التي لازالت عالقة بالذاكرة ولا يمكن نسيانها وذلك ما بين الثمانينات والتسعينات الهجرية ذهابي لصلاة الجمعة، برفقة والدي في مسجد الصحابي الجليل عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - وكنت دائماً ملحاحاً على والدي لتحقيق هذا المطلب كل يوم جمعة رغم بعد المسجد عن حينا الذي كنا نسكن به (الشهداء الجنوبية)، ولأننا لا نملك أي وسيلة للمواصلات آنذاك مع قلة السيارات في ذلك الوقت بصفة عامة ولم يكن هناك سوى عربيات الكرو والدبابات النارية والهوائية وخط البلدة والذي لا يتواجد داخل الأحياء وإنما في مناطق محددة، ومنها موقفه بجوار منشية سعيد بافيل - رحمه الله - حيث يقلنا الى برحة العباس، وكان والدي كعادته -رحمه الله- لا يرد لي طلباً، ولكن في حقيقة الأمر كان يقف وراء هذا الإصرار والرغبة الملحة أمران أولهما مشاهدة تلك الجموع الغفيرة من الناس التي ترتاد هذا الجامع الكبير، والثاني كان من أجل أن أحظى برؤية ومشاهدة جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز -غفر الله له- الذي كان يعتاد اداء صلاة الجمعة أثناء تواجده بالطائف في هذا الجامع المبارك، ولكم أن تتخيلوا طفلاً مثلي في ذلك العمر وكنت لم أتجاوز الثامنة كيف كان يستطيع الوقوف على بضع خطوات فقط من جلالته، ويأخذ في تأمل هذه القامة الشامخة بما يحيطها من مهابة وإجلال وتقوى وورع، وكيف يرى قائد هذه البلاد وهو ماثلاً أمامه بعقاله القصبي المميز وبدون حراسات مشددة ولا بروتوكولات رسمية والذي ما ان يفرغ من أداء الصلوات المكتوبة حتى يرفع أكفه بالدعاء والضراعة إلى الله، ثم يبقى بعد الصلاة طويلاً وهو يؤدي صلوات النافلة وما أن ينتهي من صلواته ويهم بالمغادرة حتى يجد آلاف المواطنين وقد تراصوا بجوار سيارته وعلى جنبات الطريق، وما أن يطل بطلته المهيبة خارجاً من المسجد حتى يعلو تصفيق الناس لجلالته، والكل يلهج له بالدعاء وطول العمر ويرددون مقولتهم المشهورة التي لا تزال حاضرة في الذهن (يعيش أبو عبدالله.. يعيش أبو عبدالله)، فيرفع جلالته يده ملوحاً ومحيياً تلك الجماهير من أبناء شعبه الوفي.. قائد مؤمن.. وشعب على سجيته.. صورة من صور النقاء والالتقاء والتلاحم الحقيقي البعيد عن كل زيف أو بهرجة مفتعلة.
كان الفيصل -رحمه الله- يجسدها يومياً طوال حياته، لأنه وبكل بساطة لم ير في قرارة نفسه أنه الملك وصاحب السلطان بل خادم الشعب وابنه البار.. وأنه لم يكن قائداً سياسياً بارعاً فحسب بل داعية خير وسلام ومحبة ووئام، لذلك لم يكن غريباً عليه أن يتباسط مع عامة الشعب ويمتزج بهم ويعيش همومهم وآلامهم ويشاركهم أفراحهم ويرتقي بأحلامهم وتطلعاتهم إلى ما يصبون ويتطلعون إليه من عزة ورفعة وتقدم وكرامة.
وفي نفس هذا السياق يروي لي جدي المعمر -رحمه الله- أن جلالة الملك فيصل وفي ليالي الصيف التي تتحول فيها الطائف إلى درة متلألئة بالأنوار والزينات والأعلام التي تعلو السرادقات والمخيمات ، حيث لا تكاد تخلو حارة من الحارات دون أن يكون بها سرادق أو احتفال ما بين حفلات زواج أو حفلات استقبال لملوك المملكة، ويحييها أبناء القبائل بألعابهم ورقصاتهم الشعبية المشهورة بالطائف وضواحيها كالمجرور والزير والعرضة والمراد، بل ويشاركهم فيها ايضاً كثير من أبناء الجاليات العربية المقيمة بالطائف، وكان جلالته يفاجئ بحضوره كثيراً من هذه الحفلات وخاصة تلك التي يقام بها شعر المراد، فإذا به وسط حشودهم يشاركهم ويستمع إلى ما يلقى من أشعار بل ويشاركهم أحيانا في قول الشعر، وربما تناقل الرواة والشعراء القدامى شيئاً من ذلك الشعر بحكمته البليغة، ويؤكد ذلك سمو الأمير عبدالله الفيصل -رحمه الله- في حوار صحفي قديم له بمجلة الدوحة القطرية فيقول: والدي -رحمه الله- كان يحب الشعر ويرويه ويقرب إليه قائله ويعطيه الشعر الممتاز فرحاً كبيراً، كانت هناك مهرجانات شعرية تقام في الطائف ووادي محرم بين يدي والدي، وكنت أنا في فترة التكوين والتأثر وكنت اشهد هذه المهرجانات، ولعلك لا تعرف أن والدي -رحمه الله- كان بنفسه يكتب في اول الأمر الشعر النبطي بمستوى عال من الروعة وإن كان مقلاً للغاية.
رحم الله الفيصل العظيم رحمة واسعة ورحم إخوانه الملوك من بعده، وأمد في عمر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان وهما يقتفيان اثر الوالد المؤسس الملك عبدالعزيز في قربهم وتواصلهم الرائع مع أبناء الشعب وعامة الناس، وليظل هذا الوطن رمزاً ساطعاً للمحبة والمودة والسلام، ويبقى المواطن السعودي دوماً هو الأثر والتأثير والأثير لدي القيادة الرشيدة.