د. يعقوب بن يوسف العنقري
يعد الصلح مع غير المسلمين من الأمور الشرعية التي دعا إليها القرآن قال تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (سورة الأنفال: 61)، وقد فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في أحوال متعددة سواء مع أهل مكة الذين أخرجوه وأصحابه من موطنهم مكة وأخذوا أموالهم وهجروهم، حتى قال بلال رضي الله عنه في توجده وحنينه لمكة:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بفج وحولي أذخر وحليل
ومع هذا كله فقد عقد النبي صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية مع قريش واتفق معهم على الهدنة بشروط كان فيها شيء من الجور من المشركين أهل مكة على المسلمين، لكن عاقبتها كانت حميدة على المسلمين فتحا وسلاما ودخولا للناس أفواجا في الدين الإسلامي.
كذلك فقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم اليهود المستوطنين في المدينة وتعاقد معهم وفق البنود المذكورة في صحيفة المدينة، ثم صالح أهل خيبر من اليهود وعاقدهم على بقائهم فيها إلا أن يشاء الله، كما قال صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر: (نقركم ما أقركم الله)، فكانت هذه أنواع من الصلح التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم مراعياً فيها مصلحة الإسلام والمسلمين.
ومسألة المصالحة والسلام مع غير المسلمين هي من المسائل السياسية المنوطة بولي الأمر دون غيره من أحاد المسلمين، فليس لآحاد المسلمين أن يقرروا الصلح من عدمه، وإنما ولي الأمر هو من ينظر في المصالح والمفاسد، ويقرر الجنوح للمصالحة والسلام معهم.
بيد أن المصالحة مع غير المسلمين في الوقت المعاصر أخرجها البعض من كونها مسألة سياسية منوطا تقريرها بولي الأمر إلى كونها مسألة عقدية، مع أن شأن المصالحة في الوقت المعاصر مع غير المسلمين تعد أخف من الحالة التي كانت مصاحبة لصلح الحديبية مع أهل مكة؛ لأن المصالحة المعاصرة تتضمن بقاء كلا الطرفين في ذلك المكان المتنازع عليه، وأما صلح الحديبية فلم يكن من بنوده بقاء المسلمين في مكة؛ لأن قريش قد أخرجتهم من وطنهم، ومع ذلك صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على جملة من البنود.
ومثل هذه المسألة قد تناولها العلماء وبينوا أن المخالفة في ذلك إنما هي نابعة من قلة البصيرة والفقه في الدين، وكما ذكر ابن تيمية: «كما يقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، إنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين».