عبدالوهاب الفايز
انتهى الحديث الأسبوع الماضي عند الحاجة لاستجلاب قصص النجاح في صناعة التدوير، وقلنا إن الإقبال والامتثال والدعم الشعبي لتوجهات الحكومة في منظومتي الطاقة والبيئة هو مؤشر ثقة ودعم وقناعة من جميع المواطنين، فالدولة في كل برامجها هدفها الأساسي الثابت هو السعي في مصالح الناس وفي مصالح الدولة العليا.
وعندما تتقرر المصلحة العليا في أُمور الاقتصاد ومعاش الناس تكون الاستجابة الشعبية حاضرة وداعمة، و(الإدارة المركزية) الصارمة لاحتياجات التنمية الأساسية هي التي جعلتنا نوفر خدمات الطرق والكهرباء والماء والاتصالات والتعليم والصحة في بطون الصحاري وفي أعالي الجبال.
وهذه المشاركة الإيجابية الصادقة بين المواطنين والحكومة، هي وقود العمل والإنجاز.. وهي منطلق الحوار في أمور الدولة والمجتمع. وكل هذه وضع روحها في ثوابت الدولة المؤسس الملك عبدالعزيز - رحمه الله.
قلنا إن قصص النجاح الوطنية التي تحققت في البرنامج الوطني لكفاءة الطاقة، وفي برنامج إعادة هيكلة قطاع محطات الوقود، وفي منظومة البيئة، وربما في مجالات أخرى، هي قصص تقدم السوابق في نجاح الإدارة العامة.
لقد تحقق النجاح في هذه القطاعات بعد اعتماد مبدأ (الإدارة المركزية الذكية) التي تعاملت مع تحديات الطاقة والبيئة من منطلق المسؤولية الوطنية السيادية، وهذه ضرورة حتى نواصل معالجة المشاكل الهيكلية في القطعات التي تهدر مواردنا المالية، وتهدر القيمة المضافة التي نحتاجها لتوسيع فرص العمل والتجارة.
في عالم الاقتصاد الدائري، وبالتحديد في صناعة التدوير، هناك الكثير من التجارب العالمية الرائدة في تدوير النفايات المنزلية، ومخلفات البناء والمستلزمات الشخصية، وتدوير النفايات الإلكترونية، والنفايات البلاستيكية، وغيرها.
في المملكة، ولله الحمد لدينا الكثير من هذه النفايات.. وهنا نقول: الحمدلله، لأن النفايات بأنواعها أصبحت تندرج تحت (فائض النعمة)، والجمعيات الخيرية العاملة في المملكة في مجال جمع فائض الطعام والملابس (عددها تقريبا 22) تتوسع في نطاق عملها حتى يشمل جميع النفايات.
مع الأسف القطاع الثالث (مازال مغيبا!) رغم أهميته لاكتمال نموذج عمل مواجهة تحديات الاقتصاد الدائري، ولهذا مقال مستقل.
ويبقى السؤال: ما هي مبادرات التدوير الناجحة تحت متطلبات الاقتصاد الدائري؟
بسبب خطورته، ركزت المبادرات الدولية على البلاستيك، والعالم يستهلك نحو 475 مليون طن من البلاستيك سنويًا، ويتم تحويل 80 % منها إلى مرادم النفايات، ويتم إعادة تدوير نحو 10 % فقط من النفايات البلاستيكية التي تمثل 85 % على الأقل من إجمالي النفايات البحرية. المقدر أن حوالي 11 مليون طن متري من النفايات البلاستيكية تدخل للمحيطات سنويًا، ونحو 800 نوع من الكائنات الفطرية تتأثر سلبيًا من التلوث البلاستيكي.
والبلاستيك الذي يرمى في البحار مدمر للحياة الفطرية، وقبل أسابيع ذكر صندوق الحياة البرية العالمي أن أكثر من 22 كيلو من البلاستيك، بما في ذلك الأطباق وأكياس التسوق ومجموعة من المنظفات قد عثر عليها داخل حوت عنبر ميت في إيطاليا. وقبل شهرين عثر أيضا على حوت ميت على شاطئ فلبيني داخله 40 كيلو من البلاستيك. كما تم اكتشاف أكثر من 1000 قطعة من البلاستيك في بطن حوت على أحد شواطئ إسبانيا. وحسب الصندوق العالمي للحياة البرية «البلاستيك أحد أسوأ أعداء الأنواع البحرية».
هذه الآثار المدمرة للطبيعة حفزت الحكومات والعلماء والجامعات والمؤسسات غير الربحية للبحث في الآليات العملية الضرورية لهذا التحدي الكبير.
في الإطار السياسي فرض برلمان الاتحاد الأوروبي منذ العام 2018 حظرا على العديد من المنتجات البلاستيكية للاستخدام مرة واحدة، بما في ذلك القش البلاستيك القابل للتصرف والسكاكين واللوحات.
أيضا جزيرة بالي في اندونيسيا قامت بحظر استخدام الأكياس البلاستيكية نهائيا، واستبدالها بأكياس مصنوعة من (بفره) الخضروات الجذرية، والـ(بفره) شجيرة خشبية وخضروات متنوعة موطنها أمريكا الجنوبية وتزرع في المناطق الاستوائية والشبه استوائية.
وفي اليابان تخطط شركة يابانية تدعى Environment Energy لبدء عملية تجارية في عام 2025، وتقول الشركة ان لديها القدرة على إحداث ثورة كاملة في صناعة إعادة تدوير البلاستيك. باستخدام تقنية HICOP (إنتاج النفط عالي الكفاءة) المتطورة. وطبقا لرئيس الشركة سوجي نودا، فإن هدفهم (الأساسي هو خلق اقتصاد دائري حيث تصبح النفايات مصدرًا لمواد جديدة). ويرى المختصون أن هذه تقدم صورة مشرقة للاقتصاد الدائري وتمهد الطريق في مجال إعادة تدوير البلاستيك.
في المملكة يبلغ إنتاج البلاستيك بحوالي 12 % من إنتاج العالم، ويقدر حجم المخلفات البلاستيكية سنوياً في المملكة بـ7 ملايين طن، 90 % منها ينتهي للمدافن أو تُحرق! وفق تقرير للبنك الدولي، يبلغ معدل استهلاك الفرد للبلاستيك في السعودية 1.8 كيلوغرام سنوياً، أي ما يفوق ضعف المعدل العالمي البالغ 800 غرام.
لدينا في المملكة تبنت عدد من الشركات والمجموعات التجارية السعودية مبادرات لتدوير البلاستك، وهي مبادرات خجولة حذرة في بداياتها.. وأمامها تحديات تقنية وتنظيمية عديدة!
أيضا، وفي جبهة تدوير الملابس هناك مبادرات ناجحة بدأت في عدد من الدول الأوربية، والآن استراليا تعمل على حزمة من المبادرات والتشريعات لمعالجة حجم النفايات من الملابس.
في أستراليا تستقبل مكبات النفايات 200 ألف طن من الملابس سنويا، ويعتبر الأستراليون أكبر مستهلك لنفايات الملابس في العالم للفرد الواحد. يشتري الشخص العادي 56 قطعة جديدة كل عام، ويبلغ متوسط قيمة القطعة الواحدة المشتراه في أستراليا 13 دولارًا. حجم سوق المستلزمات الشخصية في المملكة يقدر بـ 55 مليار ريال سنويا، والعائد على الاستثمار لدى الكيانات التي تدار بالتستر التجاري لا يقل عن 50 %!
أيضا هناك قصص نجاح في تدوير الأحذية الرياضية. عالميا، يقدر أن حوالي 300 مليون زوج من الأحذية تذهب إلى مكبات النفايات سنويًا، وتحتاج ما بين 30 إلى 40 عامًا لتتحلل لكونها تُصنع من مواد غالبًا ما تكون غير قابلة للتحلل، وعندما تبقى في مدافن النفايات أو يتم حرقها، تدخل المواد الكيميائية الضارة إلى التربة والهواء، مما يؤدي إلى التلوث.
من المبادرات الناجحة في أمريكا لتدوير الأحذية مبادرة GotSneakers وهي شركة ربحية تعمل على تقليل النفايات البيئية وتوفير الأحذية للمحتاجين، خصوصاً أن هناك مئات الملايين من الأشخاص في جميع أنحاء العالم الذين لا يمتلكون حتى زوجًا من الأحذية.
بيانات الشركة توضح انها ساهمت في منع 34 طنا من التلوث الكربوني من دخول الغلاف الجوي، وأعادت تدوير وأعادت استخدام 2.5 مليون زوج من الأحذية، منذ بداية عملها، والعدد في ازدياد.
أيضا مخلفات البناء والتي غالبا تتكون من الخرسانة والأسفلت والمعادن والجبس والخشب والطوب والزجاج والبلاستيك، يبلغ حجم مخلفات البناء والهدم في المملكة أكثر من 20 مليون طن سنوياً، وهي نسبة كبيرة جدا وتشكل المكوّن الأكبر من مجموع النفايات. وهذه تولد منتجات مربحة نتيجة تطورت تقنية الكسارات المتنقلة والمحمولة مع آلات الفرز التي أوجدت نظامًا متكاملًا للسحق والفرز الخشن والمتوسط والدقيق لنفايات البناء باستخدام جهاز واحد فقط يجعلها صالحة للاستخدام.
هذه قصص نجاح محدود، وكلها توفر فرصا لتحويل المخلفات بأنواعها إلى منتجات استهلاكية، وهذه تحقق المنفعة الاقتصادية والبيئية، وهناك فرصة للنجاح في استثمار مخلفات الإطارات والنخيل والزيوت بأنواعها ومخلفات السيارات، ولن نستثمرها إذا تأخرنا في لم شعث الاقتصاد الدائري ليكون تحت مظلة واحدة.