رقية نبيل عبيد
بعدما قرأت رائعة لوسي مود مونتغمري إيميلي فتاة القمر الجديد، بعدما رافقت إيميلي وهي تهرق كل عصارة روحها بين وريقات وصفحات، بعدما شعرت بقرب قلّما أشعر بمثله من إنسانة عاشت ذات يوم قبلي بمائة عام وذاقت ذات التوق بداخلي، ذات العشق للكتابة، ذات الأحلام والأمل بغد يحمل توقيع أمانيّها، وجدتني في شوق وفضول لألقي نظرة على ذاك الذي كتبته منذ زمن بعيد، بُعيد الطفولة قليلًا، وقُبيل النضج قليلًا، في مرحلة وسطى وعلى حافة طريق مهجور وحيد، أردتُ أن أرى مثلما أرادت لوسي أن ترى، أردت أن أعرف أين كنت قبل يومي هذا، لا أريد أفكارًا ولا أبغي مشاعر ، فقط عندي جوع عظيم لأعرف أين كان قلمي.
في وقت كنت لا أكتب فيه إلا الخواطر، ولا أطرق فيه عدا الشعر النثري، تُثملني كل الثمالة أشعار نازك الملائكة، أشعر بها قطعة مني، أشعر بها تضيء لي بضع خطوات من الطريق، في وقت كنت أُمسي وأُصبح على معشوقات نزار قباني بين أرجاء الأرض الأربع، تحضرني كلماته فأتنفسها هواء حقيقيًا وتُلهمني محاولات شعرية ساذجة أولية لكنها عندي حقيقية للغاية.
لماذا أنشر اليوم، أنا الإنسانة المستقبلية التي أتت من بعد أخر عشر عامًا، نصًا لي يحمل توقيعًا وأفكارًا ومشاعرَ وكلمات هجرتُها منذ زمن؟ حين قررت أنني حين أكتب سأكتب لا لأجل الشعر ولا لأجل القافية ولا لأجل القمر والمطر والطريق الليلي والغصة والحنايا والعوالج المحترقة والأهداب السود الساحرات، بل سأكتب لأجل أن تكون الكتابة متنفسي ورسولي إلى بني جنسي فيما أريد أن أوصل وعنه أعبر، لكنني اليوم - خجلى - أرفق هذا النص عسى أن يقرأه عابرٌ ما قرأه يومها، ثم هي تحية مني لنفسٍ قديمة مضى عليها الدهر كما مضى على غيرها بندبات وحروب وصراعات ودموع وابتسامة وضحكة وتركها غير تلك التي كانتْ، تركها أخرى، لكن تبقى النواة القديمة هي ذاتها!
تَعالَيْ إذًا يا ليلاء
أُجرّدني حَنَايَا، نُطفَ روحٍ تختمرُ في هواء الليل الطّازجِ..
أنزعُ عني لحآء الجسد، وأخلعُ عباءة الجلد المترهلة،
لأذرُ الضلوع النابضة حسًّا،الفياضة بهفهة المهجةِ،
السابحة حول أوتارٍ لا تُرى، لكنّها تعانق كل قطعة من لحمٍ الفؤاد!
أبقي نياط القلبِ، ورئتان تنفثُ هواءً، وعروق تجري بماء الجَنانِ!
أبقي الحقيق مني، الدفين أبدًا، المستتر وراء الزيف عمرًا!
وأرشقُ في القلبِ سهامَ الليلاء!
أرسلُ الأرواح الحرةَ من زنزانة الجسد عبر شقوق النافذة، إلى الخارج البهيم، إلى المجهول اللذيذ، إلى المعشوق ليلي!
ترتمي بقاياي الشفافة على حقلٍ ربيعيٍّ لا يأفل، تمتصُّ شهد الزهر المنثال من بين عروق البتل الأبيض..
ترتشف قطرات الندى المخضّبة عودها الطريِّ، حتى يكسو الرئتان بتل البرعم الأخضر..
ويغطيها نفحةُ الريحانِ، وتلتحمُ أنفاسُ الياسمين بهواء الصدرِ!
ألملم تحايا النخيلَ المحبّ تحت خمارِ الدُّجى، أمثلني رسولها،
وأفرح بملامسة السعف المخضلّ، المبتل برائحة الفجر المنظَرِ!
أعرجُ إلى أبتي المقمرُ، أمسحُ عن وجهه المؤتلق سحابة سوداء، ليس من أحدٍ يحجب نوركَ أبتاه!
أرتمي في حضنه التائق،وأغمض الأهداب على تمسيدته الخفيّة الحنون..
أفرغ من دلو الشجنِ شيئًا قليلا،وأذرها تذوي بين شلال الماس النقيّ!
وتمضي الروح تسري،تتهادي في الطريق المقفر البهيم ألهوينا!
تقتبس من ذاكرة الحنين، تُسكنها العالج، فللحنين عند العميق حنينُ!
ترافقني رياحين أمسيتي، وترمقني شجيرات التوت الحافّة موكب حفلي الصامت الصاخب بهجةً!
يمسحُ من أعلى إلى أسفل الفؤاد ظُللَ المزنِ، وتنزلق فاكهة الشتاء بين الشفاهِ!
تهديني صفصافتي سبيلي، أتسلقُ الجدران الخاوي، أثوي دون الطّللَ الصامتُ،
الراحل عنه أهلونه، الهاجرة أطياره،الذابلة أيكته التي كانتْ!
أحبُّ المكث، والقمر،والطلل، ومقل النوء الفضولِ!
إنها سويعةُ جنونٍ..
ودون الشمسِ طريقٌ طويل..
هلُمِّي إذًا يا ليلاءُ!